لو لم يكن هناك مؤتمر قمة يعقد في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العرب لوجب على القادة أن يسارعوا إلى اللقاء فوراً لمعالجة الأمور وإيجاد حلول ناجعة، فكيف إذا كانت القمة الدورية مقررة سلفاً للانعقاد في بغداد في 29 آذار (مارس) الجاري، ولماذا تأجيلها إلى منتصف أيار (مايو) المقبل؟ فإذا كانت لا تُعقد في مثل هذه الظروف، فمتى ومن أجل من ولماذا؟ زلزال مرعب ضرب العالم العربي من المحيط إلى الخليج خلال أشهر قليلة فاقتلع أنظمة وهزّ أنظمة أخرى ووصل إلى رأس القمة في دورتها الحالية العقيد معمّر القذافي، الذي كان يتباهى بأنه عميد الرؤساء العرب وأقدمهم في الحكم ويوزع عليهم الدروس والأوامر المضحكة المبكية. فهذه القمة ستكون الأكثر خطورة وإثارة وأهمية من أي قمة سابقة بسبب ظروف المكان والزمان وتداعيات الأحداث والزلازل المدوية التي شهدها العالم العربي خلال العام الفاصل بين القمة السابقة التي عُقدت في ليبيا والقمة العتيدة المرتقبة. أخطر قمة في حسابات القمم العربية المتتالية كانت قمة الخرطوم التي عُقدت بعد نكبة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 التي أسفرت عن اللاءات الثلاث الشهيرة وتحولت بسحر ساحر إلى ألف نعم ونعم، وهي: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل، لتذهب كلها أدراج الرياح. لكن قمة بغداد المرتقبة ستكون أشد خطورة لأن ظروفها أكثر إيلاماً، كما أنها تختلف عن قمة بغداد الأولى فهي ستُعقد بعد وقوع الزلازل العربية بينما الأولى سبقت وقوع زلزال الاحتلال العراقي الكويت الذي أدى إلى شق الصف العربي واستيراد التدخل الأجنبي وبناء القواعد الأميركية عل الأرض العربية التي سعدنا بتحريرها من ربقة الاستعمار، وبالتالي فإنها أدت إلى احتلال العراق، وما أدراك ما فعله هذا الاحتلال بوطن عربي من تفتيت وتدمير وقتل وإرهاب ونهب ثروات وإثارة فتن طائفية ومذهبية وعرقية وفتح شهية المطامع الإقليمية والأجنبية، وتنفيذ أجندات مدمرة للوجود العربي. أما الفرق بين قمة الخرطوم 1967 وقمة بغداد 2011 فهي أن الأولى عُقدت بعد نكبة أسموها زوراً وبهتاناً «نكسة»، لحقت بالعرب على يد العدو الإسرائيلي الذي هزم الجيوش العربية وتمكن من احتلال أراضٍ عربية في مصر وسورية وفلسطين ودرّتها القدس الشريف وأحكم قبضته عليها نهشاً وقضماً وبناء مستعمرات استيطانية بقوة الحديد والنار الغاشمة مترافقة مع التهاون العربي ومعه الهوان والتخاذل، والانحياز الأجنبي والأميركي بالذات، واللامبالاة الدولية ما أدى إلى تشتيت العرب وإدخالهم في متاهات صراعات وخلافات وأزمات ما زلنا ندفع ثمنها إلى اليوم، وبالتالي إلى تفتيت القضية والحلول والدول والمواقف وجر بعض الأطراف إلى اتفاقات جزئية ومعاهدات منفردة مقيدة لأصحابها ومطلقة يد إسرائيل في فلسطين والمنطقة. كما أن قمة الخرطوم نجحت ولو رمزياً في جمع الشمل ولمّ العقد وحل الخلافات وتأمين الحد الأدنى من التضامن العربي وتحقيق المصالحة التاريخية بين المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس الراحل جمال عبدالناصر، رحمه الله. أما قمة بغداد المرتقبة فهي ستأتي بعد انفراط العقد العربي وتفرق «العشاق» وتحول العالم العربي إلى أشلاء وأطلال نبكي فوقها ونندب حظنا العاثر وكأننا في ملحمة مقتبسة من ملحمة سقوط الأندلس. فالمأساة لم تكن وليدة ضربات أجنبية ولا من اعتداءات صهيونية، بل من بيت أبيها وأولادها ضُربت الأمة، وبأيديها رسمت خريطة طريق انهيارها، حكاماً ومحكومين فسقط من سقط، وينتظر من ينتظر دوره، والعرب يعيشون إرهاصات أحداث مزلزلة يوماً بعد يوم وينتظرون بلهفة وقلق ما سيؤول إليه مصيرهم وكأنهم أمام يوم قيامة أو لحظة الانتقال إلى عالم المجهول! فالقادة العرب، إن حضروا جميعاً فسيجدون أنفسهم لحظة وصولهم إلى بغداد انهم أمام مشهد مختلف، وأجواء مثيرة، ومتطلبات غير عادية، ومسؤوليات لا مفر من تحملها وواجبات تفرض عليهم اتخاذ قرارات حاسمة ومصيرية تضع الأمة أمام مفترق طرق، إما الانهيار وإعلان «وفاة العرب»، كما كان يردد الشاعر الراحل نزار قباني، أو النهوض والانتفاض للكرامة والعزة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصير والحاضر والمستقبل وإقامة أسس بناء قوي ومتين يتجنب أخطاء الماضي وخطاياه ويرسم خريطة طريق لغد مشرق يعيد الأمل إلى نفوس العرب ويعيد معه الابتسامة إلى شفاه أطفالنا. فالقادة العرب سيجدون أنفسهم أمام حقائق لا مجال للهروب منها أو لتجاهلها، أورد في هذه العجالة أمثلة عنها على سبيل المثال لا الحصر: * إن هذه القمة ستُعقد في العراق، بحسب الترتيب الأبجدي، على أرض محتلة وفي ظل ظروف سياسية ملتبسة ومشكوك في صدقيتها وشرعيتها، عدا عن الظروف الأمنية التي تهدد حياة القادة والوفود كما تهدد الشعب العراقي بمختلف فئاته وطوائفه. * إن القمة ضيفة على وطن عربي دمره الاحتلال بكل مطامعه ووحشيته وخطاياه ومعه مطامع قيادييه وحكامه الحاليين، وظلم ذوي القربى وتدخلات القوى الإقليمية والدولية، وأسقط نظامه وأعدم رئيسه، وهو للمناسبة كان عضواً في مؤسسة القمة ونادي قادته! وما زال الاحتلال قائماً حتى إشعار آخر مكرساً فتن المذاهب والطوائف والأعراق والأديان ومخاطر التقسيم الفعلي والواقعي. * إن هذه القمة، وعلى القادة العرب أن يتذكروا ويتعظوا لهذه الحقيقة، ستُعقد في عاصمة الخلافة الإسلامية السابقة، وفي عاصمة الرشيد، وأرض الحضارة الغابرة والنهضة التي غرفت من مناهلها كل الحضارات اللاحقة. ولكن ظلم النظام الديكتاتوري، ولا مبالاة العرب وتجاهلهم خطورةَ سقوط بغداد، ومطامع المحتل وكل العوامل الأخرى المعروفة تجمعت لتصنع الزلزال الذي ستبقى تداعياته وارتداداته مستمرة إلى أمد بعيد. * إن هذه القمة العربية ستُعقد على بعد خطوات من حدين فاصلين في مصير العرب وخريطتهم الحالية والمستقبلية: حدين أو خطين من نار واحد إيراني وآخر تركي وبينهما خط النار الصهيوني المتربص بالأمة ومفاصلها وخط الاحتلال الأميركي الذي يفترض أن يمحى في نهاية هذا العام شكلياً لأن آثاره ستبقى على شكل ندوب وجراح لا تندمل. بمعنى آخر إن قمة عربية ستُعقد بين فالقين وأمامها تحديات إثبات وجودها وتكريس دورها والدفاع عن اسمها لأن ما جرى سحب البساط من تحتها وحول مراكز القرار ومفاتيحه من الخزانة العربية إلى القوى الإقليمية التي أصبحت أخيراً صاحبة القول والفعل والأمر والقرار بعد أن سرقت «كلمة السر» من العرب أصحاب القضية والأرض والتاريخ والحضارة والحقوق. * إن هذه القمة ستُعقد في ظل ظروف عربية حرجة ومتغيرات كبرى تقلب الموائد وتغير الموازين وتهز التوازنات. فللمرة الأولى منذ 30 سنة يغيب عن القمة محركها الأول ونجمها الساطع وهو الرئيس حسني مبارك الذي أسقطته ثورة شعبية، كما تحضر مصر، الدولة الأكثر تمثيلاً من حيث عدد السكان، بلا رئيس فعلي ولا قرار حاسم بانتظار حسم أمورها واختيار رئيسها الجديد وفق وعود المجلس العسكري الأعلى. كما أن مصر، الدولة المؤسسة للقمة والمستضيفة الدائمة لجامعة الدول العربية في عاصمتها لن تكشف عن دورها الجديد خلال هذه القمة والذي نأمل في أن يعود أقوى وأشمل لتساهم في استعادة التوازن المفقود مع القوى الإقليمية، ثم في مواجهة التدخلات الأجنبية السافرة. * وإذا تركنا الصومال المنكوب جانباً ستُعقد هذه القمة في غياب عضو آخر في مؤسستها هو الرئيس زين العابدين بن علي ممثل الدولة التي استضافت الجامعة العربية خلال فترة مقاطعة مصر بسبب اتفاقيات كامب ديفيد، وستحضر تونس بنظامها الانتقالي بعد ثورة أسقطت النظام بلا دور ولا قرار ولا موقف. وستُعقد أيضاً بحضور السودان بعد أن فقد نصف أراضيه وشعبه وخيراته ورئيسه مطارد دولياً، أين هو من رائدي قمة الخرطوم: إسماعيل الأزهري ومحمد محجوب. * إن هذه القمة ستُعقد والأمة تعيش حالة ثورة وهيجان وأزمات متلاحقة وغضبة جماهيرية شاملة عناوينها الديموقراطية وحقوق الإنسان والبحث عن الحريات والكرامة، وجذورها تعود إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة وحالات الفقر والبطالة المستشرية والنقمة على الفساد والمفسدين والمتمادين في غيهم من دون وازع من ضمير ولا رادع ولا خوف من الله والشعب، على أمل أن تتغير الأمور بعدما جرى في تونس ومصر وليبيا والحبل على الجرار. وهذا يصب كله في اتجاه واحد وهو البحث عن مخارج وحلول اقتصادية واجتماعية شاملة وفتح صناديق مالية مشتركة لإقامة مشاريع منتجة وإيجاد فرص عمل للعاطلين على امتداد الوطن العربي ومساهمة جميع الدول العربية ولا سيما الغنية منها في البحث عن حلول جذرية للمشاكل القائمة التي لن ينجم عنها سوى المزيد من الاختلال والاضطرابات والزلازل والثورات. * وأيضاً لو تركنا لبنان جانباً بكل ما فيه من بؤر توتر وفتن ومخاطر وصراعات فإن هذه القمة ستُعقد في ظل تدخلات أجنبية سافرة، وإملاءات أميركية للعرب، أقل ما يقال عنها إنها استفزازية ووقحة. كأنه لم يكفِ الدول العربية ما تعاني منه من تدخلات إقليمية مماثلة وإملاءات من إيران وتركيا تحدد من يذهب ومن يبقى وماذا علينا أن نفعل، فلا يكاد يمضي يوم إلا ونسمع فيه تصريحاً أو بياناً أميركياً وغربياً، وأوامر من قادة الدول للعرب بما عليهم أن يمتثلوا له أو أن يقوموا به، ومن عليه أن يتنحى ومن يقود، ومن هو الصالح ومن هو الطالح. هذا التطور المزعج والمؤسف يجب أن تضع له القمة العربية والدول العربية حداً قبل أن يتفاقم، لأن التساهل في هذا الأمر سيعيدنا إلى عهود نفوذ القناصل ويعيد الاستعمار الذي خرج من ديارنا من الباب ليعود من نافذة مزاعم حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية والدفاع عن الحريات. ونحن نستغرب هذه الغيرة المفاجئة والمزيفة على حقوق العرب ونستهجن الأسلوب والأهداف ونذكر أصحابها بحقوق الشعب الفلسطيني التي ينتهكها الإسرائيليون يومياً بكل وحشية وتعنت وصلف واحتلال وظلم واضطهاد وعنصرية ومستعمرات استيطانية وسجن الآلاف واضطهادهم وقتل وتشريد مئات الآلاف منذ 62 سنة حتى يومنا هذا، من دون أن نسمع كلمة واحدة من أفواه المتشدقين بالحقوق وأبطال سجون العراق وغونتانامو ورواد العنصرية والتطرف والتعصب. * إن هذه القمة ستُعقد والسلام في الشرق الأوسط ينازع بفعل التعنت الإسرائيلي واللامبالاة الأميركية، كما أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وصلت إلى طريق مسدود بعد أن قزمت القضية من حقوق وتحرير وسلام إلى جزئية الجدل حول المستوطنات والاستيطان الإسرائيلي ما يستدعي وقفة حاسمة وجريئة من القادة العرب. نعم، إنها قمة مصيرية وحاسمة، قمة مختلفة في الشكل والمضمون، في ظرف الزمان وظرف المكان، قمة ستجلس على صفيح ساخن وملتهب. ولكن هل سيتعظ القادة ويغيرون ما بأنفسهم ويستمعون إلى نواقيس الخطر ويشعرون بأخطار الزلازل القائمة والمقبلة؟ إنه سؤال برسم القمة لعلها تتخذ قرارات مختلفة من حيث الشكل والمضمون... ومتطلبات الزمان والمكان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.