طغت لغة الواقع السياسي والمصلحة القومية على التداول الدولي مع التطورات الليبية عندما خرج الاستحقاق من خانة الأقوال وحط في خانة الأفعال. قرار مجلس الأمن الذي صدر بالإجماع قبل أسبوعين شكّل سابقة لما انطوى عليه من عقوبات وتجميد أرصدة ومحاسبة للنظام وأقطابه الرئيسين في المحكمة الجنائية الدولية. تبعت ذلك القرار مختلف أنواع التوعّد والمطالبة برحيل معمر القذافي من السلطة. وعندما بدأ الحديث عن فرض منطقة حظر جوي يتطلب بالضرورة تدخلاً عسكرياً جوياً، بدأت عملية سكب الماء البارد على التطلعات التي أطلقتها حفلة الاحتفاء بالتصعيد السياسي، داخل مجلس الأمن وخارجه. جزء من التأني منطقي وهناك مجال للدفاع عن الرأيين المتناقضين، ذلك المطالب بفرض الحظر الجوي والآخر المعارض له. الدرس الأساس هنا هو ضرورة التأني السياسي والتيقن من القدرات والاستعداد للأفعال قبل التسرع بالأقوال. وهذا الدرس ضروري في الدرجة الأولى للإدارة الأميركية ولكثير من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) الآخرين. فالوضع العائم في أعقاب تردد «الناتو» في القيام بفرض الحظر الجوي مُحرج أخلاقياً، مهما كانت أسباب التردد منطقية. ذلك ان الكارثة الإنسانية تتطلب اجراءً ما، لا سيما بعدما قرر مجلس الأمن، بالإجماع، إقحام نفسه في الحدث الليبي لأنه اعتبر ذلك من واجباته بصفته القائم على حفظ السلم والأمن الدوليين ومنع الانتهاكات الإنسانية الجسيمة. فأعضاء مجلس الأمن زجوا أنفسهم في زاوية الاستحقاق، وأي تملص سيكون مردوده مكلفاً لليبيين الذين راهنوا على مجلس الأمن وأعضائه وبالذات الكبار منهم، وسيكون مكلفاً لصدقية هذه الدول وسيطعن بمسؤولياتها الأخلاقية والسياسية. وإذا أدى التردد الى تسجيل نظام القذافي انتصارات على الأرض، أو الى تشرذم أو تقسيم ليبيا، ستزول الحماسة الشعبية العربية للتغيير في دول أخرى على نسق التغيير السلمي في تونس ومصر، وذلك خوفاً من مصير كالذي حدث في ليبيا بدموية وبحرب أهلية. فإسقاط الأنظمة شيء وسحق الاستقرار في المنطقة شيء آخر. تمكين الجيش من الإشراف على التغيير كما حدث في تونس ومصر بحد ذاته لافت للاهتمام ويستحق التمعن في خلفيته وأبعاده. أما ما حدث في ليبيا فإنه يدخل في معادلات القبائل والعشائر وانقسام ولاء الجيش في بلد لم يعرف أبداً معنى المؤسسات. والأنظار الآن تتجه الى اليمن الذي قد يكون أقرب الى النموذج الليبي في مسيرة الانتفاضة العربية مما هو الى نموذج تونس ومصر. فإذا فشلت مسيرة التغيير والإصلاح في المحطة الليبية، فستكون للفشل أصداء تعرقل تلك المسيرة في مختلف أنحاء المنطقة العربية. التعقيدات جمّة بلا شك. فهناك المعركة على الشرعية بين الجماهيرية الليبية التي يقودها معمر القذافي وبين المجلس الوطني الانتقالي الذي أنشأ حكومة موقتة يحاول أن ينتزع لها اعترافاً من الدول. وهناك مهمات المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، وزير خارجية الأردن السابق عبدالإله الخطيب، والتي لن تكون حصراً إنسانية. فالسؤال إذاً، هل أتى تعيينه ليكون الفسحة السياسية في خضم التصعيد بجميع أنواعه؟ وما هو أفق المهمة الموكلة اليه وآفاق حركته؟ ثم هناك مسألة حظر الطيران والخيارات الأخرى المتاحة أمام مجلس الأمن الدولي. أعضاء مجلس الأمن اليوم في انتظار مواقف جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي بعدما دعم كل من مجلس التعاون الخليجي ومنظمة المؤتمر الإسلامي فرض حظر الطيران في ليبيا. هذا من جهة الغطاء السياسي وربما الغطاء المالي. أما المشاركة العملية في تطبيق حظر الطيران فإنها بالضرورة بقيادة حلف «الناتو»، حتى وإن كانت بمشاركة من نوع أو آخر من دول مجلس التعاون الخليجي أو دول مجاورة كمصر. الأرجح ان يكون موقف جامعة الدول العربية غداً السبت في الاتجاه ذاته، علماً أن هناك دولتين تمانعان فكرة حظر الطيران هما سورية والجزائر. سورية سبق أن كانت طرفاً مباشراً في العمليات العسكرية بقيادة أميركية في العراق في أوائل التسعينات، وبالتالي فتبرير موقفها لن يكون سهلاً. لربما تقرر عدم الإعلان عن ممانعتها كي لا تبدو أنها مع النظام الذي يقوم بالقمع ضد الشعب وثورته التي يواجهها النظام بالقصف الجوي. أما الجزائر فإنها تخشى إفرازات التطورات في الساحة الليبية على الجزائر وقد تود فشل الانتفاضة. مواقف الأفارقة أيضاً مهمة جداً، لا سيما ان هناك دولاً أفريقية ما زالت على ولاء لمعمر القذافي الذي احتضنها وساعدها، كما هناك دول تصدر المرتزقة الى ليبيا لمساعدته على الاحتفاظ بالسلطة. مجلس الأمن يعلّق بالغ الأهمية على هذه المواقف لكنه يريد أيضاً الأفعال وليس فقط الأقوال. يريد من الدول الأفريقية التي تصدّر المرتزقة ان تكف عن ذلك فوراً. ويريد من العرب أن يشاركوا فعلاً في إنشاء منطقة حظر للطيران، كلفة وطائرات وجنوداً. يريد من منظمة المؤتمر الإسلامي التي يترأسها أكمل الدين احسان أوغلو ان تقنع تركيا بالكف عن التردد وبالقيام بدورها ضمن حلف شمال الأطلسي. المهم لمجلس الأمن أن ينظر في كيفية مراقبة ومحاسبة الدول التي لها علاقات وطيدة مع ليبيا مثل ايطاليا وشركاتها بعدما فرض تجميد الأرصدة، إذا كان جدياً في تنفيذ عقوباته. على الدول المعنية والقادرة استخدام ما في يديها من أدوات لفرض تطبيق حظر تصدير أو تهريب الأسلحة الى النظام الليبي. ثم إذا كانت هذه الدول حقاً جدية في تنفيذ التوعّد بأن على الزعيم الليبي الرحيل، كما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما، عليها إما فرض حظر الطيران – وهذا ما لا تريده المؤسسة العسكرية ولا المؤسسة السياسية لما ينطوي عليه من دور أميركي مباشر في العمليات العسكرية داخل ليبيا. حتى تسليح الثوار الليبيين يطلق التحفظات، إذ ان ما فعلته الولاياتالمتحدة في أفغانستان عندما سلّحت الثوار وأعطتهم صواريخ «ستنغر» أسفر عن تسليح المجاهدين و «طالبان» واختفاء تلك الصواريخ المضادة للطائرات. حتى إذا لم تكن هناك خيارات متاحة علناً، فإن الكلام عن احتمال تفعيل هذه الخيارات أطلق رغبة القذافي بإيفاد مبعوثين الى مختلف العواصم العربية والغربية بهدف الحؤول دون تحالف يتخذ هذه الإجراءات. قد يقال ان الكلام عن فرض حظر الطيران والتصعيد الشفوي ضد النظام جيد لأنه أدى الى التفكير في طرابلس بحلول الخروج من المأزق انما هذا لم يردع التصعيد العسكري والقصف الجوي للثوار وللمواقع النفطية والمدنية على السواء. ربما حظر الطيران بقرار دولي أو نتيجة تكتل بعض الدول لن يؤدي هو أيضاً الى ردع نظام القذافي عن تكثيف العمليات على الأرض ضد الثوار المنهكين والمبعثرين بلا قيادة واضحة. وربما من المفيد التفكير بما يقع بين القيام بلا شيء وبين التدخل العسكري عبر فرض حظر الطيران على نسق تشديد العقوبات وتوسيع قائمة المحظورين من السفر والذين حساباتهم تُجمّد، ومراقبة تنفيذ حظر الأسلحة الى النظام، وكذلك من خلال فرض «ممر إنساني حيوي وناشط». كل هذا لا يعفي مجلس الأمن من ضرورة حسم أمره من قراره الرقم 1970 الذي هو، عملياً، عبارة عن إدانة نظام وإطلاق آلية لمحاكمة القائمين عليه، وبالتالي، إنه عملياً قرار إزالة النظام. أعضاء في مجلس الأمن يتحدون ذلك المنطق مشيرين الى ان أعضاء المجلس قاموا بزيارة جماعية الى السودان واجتمعوا بأقطاب النظام الذي يرأسه عمر البشير مع انه كان موقع إدانة المجلس وهو وفق قرار المحكمة الجنائية الدولية ارتكب جرائم ضد الإنسانية. أي ان الرجل المطارَد قانونياً من جانب محكمة دولية أوكل إليها مجلس الأمن ولاية محاسبته هو الرجل الذي استقبل نظامه وفداً من جميع اعضاء مجلس الأمن وتلقى التقدير على مواقفه من الاستفتاء الذي كان مدخل انفصال الجنوب عن السودان. بكلام آخر، إن مجلس الأمن سبق وراوغ، وهو قد يكون جاهزاً ليراوغ مرة أخرى. ففي السودان ارتُكبت جرائم فظيعة وفي ليبيا تُرتكب جرائم في إطار آخر ليس واضحاً إن كان حرباً أهلية أو ثورة مسلحة على نظام. المهم ان النظام في السودان ما زال في السلطة وبشبه مباركة دولية، كما أثبتت زيارة اعضاء مجلس الأمن. أما النظام في ليبيا، فلربما تلوّح له جزرة السودان كي يتفضل الى طاولة المساومات ويكف عن البطش الدموي. ثم عندئذ يعيد مجلس الأمن النظر في قراره. منطقياً، يبدو أنه فات الأوان على النظام الدولي بعدما تبلور إجماع دولي ضد القذافي وطريقة تعامله مع الانتفاضة الدولية. واقعياً، وباسم الواقعية السياسية، لربما هناك مؤشرات على خطوات دولية الى الوراء نظراً الى عدم الاستعداد المحلي - خصوصاً اميركياً وأوروبياً - للدخول طرفاً في الحرب الليبية. إنما هذا التراجع أو التردد لا يعني صكاً مفتوحاً للنظام الليبي للفتك بالشعب. فالارتباك أو الضياع في متاهات الاعتبارات السياسية الانتخابية والاعتبارات العسكرية تؤججه حساسية الشعب الأميركي ضد التدخل العسكري الأميركي أينما كان لأي سبب كان. وربما هذا ما يراهن عليه القذافي والذين يقدمون له النصيحة والمشورة بأن يراهن على الوهن والارتباك الأميركي والأوروبي. إنما في الوقت نفسه، هناك واقع المأساة الإنسانية والتجاوزات التي لا يمكن الأسرة الدولية السكوت عليها، مهما كان. مهمة عبدالإله الخطيب لن تكون سهلة، إنما قد تكون أداة مفيدة لجميع اللاعبين المعنيين لتمرير هوامش التفاهمات أو الصفقات. ولعل وصوله نيويورك في خضم المفاوضات بين أعضاء مجلس الأمن على مشروع قرار فرض حظر الطيران وإجرائه المشاورات مع الأمين العام بان كي مون وأعضاء مجلس الأمن يوفر فسحة زمنية للتنفس في نيويورك وفي عواصم الدول المعنية، إنما الخوف كل الخوف هو ان تكون الفسحة الزمنية في ذهن أقطاب نظام القذافي رسالة خاطئة غير مقصودة للاستمرار في القصف - إما رهاناً على التلكؤ الدولي أو استباقاً لفرض حظر طيران سيستغرق إنشاؤه طويلاً من الزمن.