-1-سبق وكتبت، أن المغرب العربي الآن - في مُجمله - أصبح مشرق التنوير العربي، بما يضمُ من كوكبة كبيرة من المفكرين التنويريين الحداثيين. ولا أريد أن أذكر أسماء معينة هنا، حتى لا أنسى الآخرين، وهم كثر. ولكن القارئ المتابع للفكر العربي والإسلامي في المغرب العربي عامة، يدرك تمام الإدراك، بأن هذا المغرب قد أصبح "مشرق التنوير العربي والإسلامي الحديث"، سيما بما خرج وبما يخرج الآن من تونس والمغرب، من دراسات وأبحاث وأفكار تنويرية، استطاعت أن تخطف قصب السبق من مصر وبلاد الشام، اللتين كانتا مركز الإشعاع والتنوير في بداية القرن العشرين، فانتقل هذا المركز الإشعاعي التنويري في النصف الثاني من القرن العشرين إلى المغرب العربي، الذي أصبح "المشرق التنويري العربي". -2-من أبرز مفكري التنوير والحداثة في المغرب/المشرق العربي والإسلامي التنويري، المفكر والشاعر والأكاديمي التونسي/الفرنسي عبدالوهاب المؤدب. ولعل أهمية خطاب المؤدب التنويري تأتت من أنه يناقش الإسلام من داخله بمحبة وليس بعداء. وهذه المحبة المتأصلة للإسلام، جاءت من كون المؤدب مسلماً مُحباً للإسلام حباً عقلانياً وروحانياً. ويذكرنا عبدالوهاب المؤدب بالفيلسوف الفرنسي إرنست رينان، الذي تربى أيضاً في بيئة أصولية مسيحية، بل وكاد أن يصبح راهباً، ثم اطلع على فلسفة التنوير والنظريات العلمية الحديثة. لذا، فإن الخطاب التنويري في هذه الحالة يأتي خطاباً إيجابياً، يسعى إلى البناء أكثر مما يسعى إلى الهدم، وإلى التنوير أكثر مما يسعى إلى الإظلام، وهو ما نشاهده من أمثلة اليوم في بعض شيوخنا الشباب التنويريين. ويقول هاشم صالح، المفكر السوري/الفرنسي التنويري عن هذه الفئة من المفكرين المهمين إن هؤلاء "في ذات الوقت يعرفون جيدا خطورة الدين، إذا ما تحوَّل إلى تعصب أعمى، وانقلب إلى سلاح طائفي فتَّاك، لا يُبقي ولا يذر. وهؤلاء وحدهم يعرفون معنى الإكراه، والرعب، والقمع، والردع الذي يُمارس باسم الدين، وبخاصة في الفترات الانحطاطية والانغلاقية الطويلة". -3-وُلد عبدالوهاب المؤدب في تونس، في حي قريب من جامع الزيتونة، الذي يُعدُّ بمثابة الجامع الأزهر في مصر. وهو سليل عائلة من فقهاء الدين المشهورين في تونس، إضافة إلى أنه في البدء مثقف إسلامي أولاً . ومن هنا، فهو يتحدث من داخل الإسلام - وليس من خارجه أو من فوقه - عن المفهوم الأصولي للإسلام، وعن الأجواء المحافظة والتعقيدية التي عاشها في طفولته. وهذا دليل على أن التربية الإسلامية ليست كلها قمعية كاتمة للصوت والعقل. فهناك روحانية الإسلام وقيمه العالية، التي تربى عليها المؤدب أيضاً، ولا يزال معجباً بها ومحباً لها حتى الآن. وبالتالي، فالمؤدب ظلَّ مخلصاً لتربيته الإسلامية ولبيئته الدينية، ولكن بانفتاح كبير على مختلف تيارات الفكر المعاصرة، وفلسفاته. -4-يتحدث المؤدب في كتابه "مواعظ مضادة" عن ظاهرة الفتاوى التكفيرية الدينية، التي انتشرت مؤخراً في العالم العربي والإسلامي، وخاصة بعد حادثتي حرب الخليج الثانية 1991 ، وكارثة 11 سبتمبر 2001. ويصف هذه الفتاوى التكفيرية بأنها "مرض التكفير" في الإسلام. وهو مرض شائع حالياً في الأوساط الأصولية داخل العالم الإسلامي، وخارجه، وفي المسيحية، واليهودية كذلك. ويقول المؤدب في كتابه "مواعظ مضادة"، إن الشيء المرعب، هو أن ينتشر هذا "المرض" في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، وكذلك في الغرب. وفي هذا المعنى، يعتبرُ المؤدبُ حسن البنَّا، هو مؤسس الأصولية المعاصرة، وهو "أنموذج للهذيان المعادي للغرب. وفي نص البنَّا يمكن تبيُّن زخم المعاداة للغرب، الذي يجري التعبير عنه عبر خطاب بدائي، يُعرِّف اقتناعاته كأنها من المسلمات." وكان هذا الخطاب المعادي للغرب، هو محور نشر الكراهية بين الشرق والغرب. -5-في كتاب المؤدب الأخير "الخروج من اللعنة Sortir De la Malediction” وبعنوان فرعي: "الإسلام بين الحضارة والبربرية"، يشير المؤدب إلى أن التفسير الحرفي للنصوص المقدسة، هو الذي جمَّد الإسلام في معانٍ وتصورات معينة. وهو ما قاله قبل فترة الشيخ الفقيه التنويري أحمد بن باز. وهذا بالتالي، عطَّل ومنع المفسرين الآخرين من الاجتهاد، الذي تمَّ إغلاق بابه منذ عام 1017م، في عهد الخليفة العباسي القادر بالله، صاحب نص "الاعتقاد القادري" الذي تمَّ تعميمه في جوامع بغداد، وتمَّت تصفية من يقول بغيره. كما تمَّ حرق كافة الكتب بهذا الخصوص. وأصبح الإسلام منذ ذلك الوقت، سجين التفسير الحرفي الظاهري للنصوص المقدسة، ويواجه الانسداد التاريخي. -6-والآن ما هو الحل، لكي نتجنب المزيد من الكوارث والنوازل التي يسببها التفسير الحرفي الظاهري للنصوص المقدسة؟ إن الحلَّ، هو أن نأخذ من الإسلام روحه، وجوهره، وحرصه الأكيد على مصلحة المسلمين وسلامهم. فليس من العدل والإنصاف للإسلام، أن نغضَّ الطرف عن النصوص المنفتحة المتسامحة، التي تدعو إلى السلام والعدل والحرية.