ليس صحيحاً أن أوضاع الاستقرار في المنطقة المغاربية أكثر تفاوتاً. انها أقرب الى عدوى تنتقل من دون احتساب الفوارق، والظاهر ان تونس التي كانت تقدم نفسها نموذج استقرار تدعمه القبضة الحديدية انقادت وراء موجة الغضب التي ضربت شوارع سيدي بوزيد. الى ما قبل الانفجار اللافت، كان مفهوماً ان دول الشمال الأفريقي تحاول أن تنفذ الى زمن قريب من الهواجس الديموقراطية، يتيح للشارع حرية الحركة وإبداء الانزعاج حيال قرارات جائرة أو حيف اجتماعي واقتصادي، لولا ان تجربة تونس أكدت بما لا يدع مجالاً للشك ان الابتعاد عن الديموقراطية يدفع أيضاً الى احتدام المشاعر والصراعات. إلا ان الربط بين الحالين، أي الاقتراب أو الابتعاد عن استيعاب قوانين وقيم العصر يعكس درجات الغليان الذي لا يمكن احتواءه إلا عبر وصفة الانفتاح. سيكون على تونس التي تأرجحت كثيراً بين الاندفاع في اتجاه الانفتاح الديموقراطي أن توفق بين ما اعتبرته مشروع ازدهار اقتصادي قابل للحياة، ولو لفترة قصيرة، وبين بديل سياسي يكفل النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من منطلق يعزز خيار التداول السلمي على السلطة. فقد ثبت ان رياح الغضب، إذ تأتي في غير مواسمها تجهز على كل شيء. حدث ان جارتها الجزائر تأثرت أكثر بخطوات لم تكن محسوبة على طريق الانفتاح وتكريس التعددية السياسية، على أنقاض هيمنة تاريخية لحزب جبهة التحرير الجزائرية. واحتاج الأمر الى سنوات، دفعت خلالها الثمن غالياً، قبل أن تلمح بصيص الأمل في نهاية الطريق. ومع ان جبهة التحرير ليس هي الحزب الحاكم في تونس، بالنظر الى تجربتها التي جمعت بين أصحاب القبعات والوجوه المدنية، فإن نقطة الالتقاء تكمن في الخروج من نفق الحزب الوحيد الذي يستأثر بكل النفوذ. في المغرب أيضاً احتاج الأمر الى عقود من أجل بلورة معالم وفاق سياسي جديد، حمل المعارضة الشرسة لنظام الملك الراحل الحسن الثاني الى الحكم. غير ان ذلك لم يحل دون معاودة مظاهر الانفلات الاجتماعي. فيما لا تزال دولة مغاربية أخرى اسمها الجماهيرية الليبية تبحث عن معالم الطريق، وان كانت الدولة الأضعف في الحلقة المغاربية موريتانيا، اهتدت الى ديموقراطية على طريقتها التي سمحت بارتفاع الأصوات المعارضة. غير بعيد عن هذا التفاعل الذي يجري في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، خطت اسبانيا يوماً في الاتجاه الصحيح. كل ما فعلته انها تركت الوقت الكافي لتجربة الجنرال فرانكو أن تستنفذ كل أوراقها. وعلى الرغم من كل عيوبها السياسية فإنها ركزت على دعم البنيات الاقتصادية والاجتماعية، حتى إذا حل أوان الانفتاح الديموقراطي لم تواجه أي صعوبة في اللحاق بالركب الأوروبي. أقله على صعيد استيعاب عقد التقدم الذي أبرم بمنطق تكريس الخيار الديموقراطي. ساعد اسبانيا في ذلك ان القضاء الأوروبي كان قابلاً لاستيعاب تجربتها الى جانب البرتغال، فقد كان الأوروبيون في فترة سابقة في أمس الحاجة الى حماية خاصرتهم الجنوبية عند الامتداد الجنوبي. المفارقة ان المشروع الوحدوي الذي كان المغاربيون يبشرون به في نهاية ستينات القرن الماضي، يكاد يشابه المشروع القابل الذي احتمى به الأوروبيون، فقد بدأوا بالسوق الأوروبية المشتركة، ثم الاتحاد الأوروبي فالوحدة النقدية، من دون استبعاد النظرة الشمولية في توازن المكونات الأوروبية التي درجت نحو استقطاب شركاء جدد. بخاصة من دول المعسكر الشرقي الخارجة من تداعيات الحرب الباردة. غير أنه في مقابل هذا الزخم انكسرت جهود البناء المغاربي، على رغم ان بلدانه لم تجرب حروباً طاحنة في ما بينها كما عند الأوروبيين. والحال ان هذا المشروع كان يحمل في طياته كل بوادر النجاح، من جهة لأن الحقائق التاريخية والجغرافية والروحية تدفع في اتجاه الانسجام والتآخي، ومن جهة ثانية لأن كل شروط التكامل الاقتصادي في البنيات والموارد والثروات المادية والبشرية تعزز خيار الوحدة. الآن يبدو المشروع المغاربي، وكأنه يعيد فرض نفسه، فقد انتكس نتيجة استمرار الخلافات السياسية والرؤية المتباينة للقضايا التي تعرقل مساره الطبيعي، غير انه في الجانب الاقتصادي والاجتماعي يبدو أقرب الى الاستيعاب. أقله على صعيد بلورة معالم تكامل اقتصادي ورفع الحواجز والإفادة من كل إمكانات المنطقة. يصعب في غياب الإرادة السياسية الانتقال الى فترة العمل المجدي. ومن الجائز افتراض ان أحداث القلاقل والتمردات الاجتماعية يمكن أن تفتح العيون جيداً حول منافع الاتحاد المغاربي. ان لم تكن من أجل انطلاق مشروع استراتيجي كبير يعيد للمنطقة حيويتها، فعل الأقل من أجل إذابة معضلات اقتصادية واجتماعية ترزخ تحتها.