المشهد مثير للغاية، تسمع ويشرح لك المختصون الكثير من المعطيات، ولكن أن ترى بأم عينيك ذاك الفتى الفتي وتتطلع في ملامحه مباشرة، فتلك حكاية أخرى. فتى بيرصة ذاك الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، اكتسى هيكله العظمي «لحما»، وبدا للناظرين في متحف قرطاج كأنه يقف أمامهم فتى شابا يرتدي ثوبا أبيض خفيفا به طيف أحمر خفيف وهو مقدود من الصوف على عادة القرطاجيين في اللباس. الفتى الشاب يقف أمام الزائرين وبيده سبحة وعلى رقبته قلادة وينتعل حذاء إغريقيا كعادة القرطاجيين. الفتى متوسط الطول، تبدو على وجهه علامات الصحة والعافية، سليم البنية، كثيف الشعر، يغمر وجهه وحاجبيه، وبه تجاعيد. وهو بتلك الهيئة يغري بالانتساب إليه على حد تعبير الناقدة الفنية حياة السايب التي قالت من فرط الإعجاب بالمعرض: «إذا كان الفينيقيون على هيئة كهذه فمرحبا بهم أجدادنا وأسلافنا». فتى بيرصة الذي انطلقت عمليات عرض مجسمه أمام الزائرين لمتحف قرطاج بدأت المغامرة معه ذات يوم من سنة 1994، حين تم الكشف خلال عمليات التنقيب عن الآثار بهضبة بيرصة بقرطاج عن هيكله العظمي. كانت بعثة أثرية تونسية فرنسية قد عثرت عليه في بئر عميقة بربوة بيرة بالضاحية الشمالية للعاصمة التونسية. وقتها تولى مكتب تونس للمجلس الدولي للمتاحف إخضاع ذاك الهيكل لمجموعة من التحاليل الجينية الدقيقة، حيث تم تحديد هوية الشاب التي تبينت أنها تعود إلى شاب قرطاجي من القرن السادس قبل الميلاد. وفي إطار الشراكة العلمية بين تونسوفرنسا جرت عملية استنساخ الهيكل العظمي ونقله إلى أشهر المخابر الفرنسية المختصة في الترميم، وبالاعتماد على أحدث التقنيات العلمية أعيدت صياغة ملامح الهيكل وتركيب صورة تقريبية ليبرز من وراء ذاك الهيكل العظمي شاب قرطاجي أنيق الملامح بهي الطلعة يتراوح عمره بين 19و 24 سنة. وتؤكد مجموعة التمائم والتعويذات والأواني التي رافقته في قبره أنه ينتمي إلى عائلة قرطاجية نبيلة. المعرض يتيح الفرصة لاكتشاف بداية التاريخ، حيث يقدم تفاصيل اكتشاف ضريح الشاب القرطاجي ومحتوياته من هياكل عظمية وأوانٍ فخارية وتمائم وفسيفساء. وتبرز مجموعة الصور والخرائط المعروضة العهد القرطاجي ومدى الازدهار الذي ميز تلك الحقبة الزمنية التي ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، ويحتوي العرض على فضاء ثانٍ يتوسطه هذا الشاب الذي يعود إلى أكثر من 25 قرنا ويتم عرضه بالاعتماد على أضواء مدروسة بدقة وهو يرتدي قميصا طويلا وحذاء من الجلد يجعلانه أقرب ما يكون إلى الآدميين. النحاتة الفرنسية إليزابيث دايناس، التي كست ذلك الهيكل العظمي وصبغت جلده وهيئته بألوان طبيعية وكست الرأس وطبعت العينين بألوانها ووضعت له الأظافر والحاجبين مما جعله لا يختلف كثيرا عن البشر العاديين، استعملت في ذلك تقنية «الدرموبلاستي» واعتمدت في ذلك على نصائح أحد الأطباء الشرعيين. الجولة داخل المتحف قادتها ليلى العجيمي مديرة البحوث ورئيسة فرع المجلس العالمي للمتاحف بتونس، وحرصت على تقديم كل المعطيات والتفاصيل الدقيقة حول «فتى بيرصة». العجيمي تركت فرصة اكتشاف شاب بيرصة من قبل الزائرين، فأخفتت الأضواء قائلة: «سأترك لكم فرصة الاستمتاع باكتشاف فتى عاش منذ أكثر من 25 قرنا فوق نفس هذه الأرض وأكل من نفس طيباتها». سهام الرودلسي الأنثروبولوجية المختصة في الهياكل العظمية البشرية قالت من ناحيتها إن الهيكل العظمي لم يكن يشكو من علل تذكر، ولأن العلامات المتوفرة لا تعطي معلومات كافية حول لون العينين ولون الشعر فقد تم الاعتماد على خصوصيات الفتى المتوسطي لتسند إلى شاب بيرصة، كعينين بنيتين وشعر يتراوح بين الأشقر والغامق. فتى بيرصة عثر عليه صدفة سنة 1994 ونقل إلى فرنسا ليعود إلى تونس منذ يوم 24 سبتمبر (أيلول) الماضي، وهذا العرض بمتحف قرطاج بالضاحية الشمالية للعاصمة فرصة للزائرين للاطلاع على نمط حياة مغاير. العرض انطلق يوم 15 أكتوبر (تشرين الأول) ويتواصل إلى غاية يوم 31 مارس (آذار) القادم.