لا مجال لأي تقدم حضاري ما لم يترك الناس أحرارا يعيشون كما يحلو لهم وبالأسلوب الذي يناسبهم».. جون ستيوارت ميل. نظرية ميل هذه في مفهوم الحرية، وفي تطبيقاتها هل تطبقها دولة ما في العالم اليوم؟.. السؤال بصيغة أخرى: هل ثمة دولة في العالم تعيش بلا دستور ولا قانون ولا إجراءات تنظم حركة المجتمع وعلاقات الناس في التجارة والعمل والمرور والتعليم والإدارة والتقاضي.. وفي العلاقات الدولية؟.. إذا وجدت هذه الدولة في مكان ما، فهي – عندئذ - ذات الدولة التي تخيلها ميل والتي يعيش الناس فيها أحرارا كما يحلو لهم، وبالأسلوب الذي يناسبهم!! ولما كان الواقع البشري يخلو – بطبيعة الحال - من هذه الدولة أو المجتمع، فإن ما تصوره ميل عن الحرية وتطبيقاتها إنما هو خيال من الخيال!! لم يوجد، ولن يوجد!! والواقع البشري - الكلي والجزئي - أقوى وأعقد وأعصى من أن يدار بالخيال. من الأدبيات السياسية الذائعة أن الولاياتالمتحدة هي من أوسع البلاد حرية. بيد أنه ينبغي أن يقال: إن الولاياتالمتحدة الأميركية هي من أكثر دول العالم زحمة وتراكما في القوانين. حتى قيل: في أميركا يجب أن ترفع رجلك بقانون، وأن تضعها بقانون: كناية عن الإسراف في التقنين وإجراءاته الفرعية: المتفرعة عن فروع لا نهاية لها.. وهذه القوانين واللوائح ليست لتنظيم حركة الكواكب والأفلاك. فهذا شيء فوق قدرات البشر، ثم إن هذه الحركة الكونية مضبوطة باطراد لا يعتريها خلل ولا ارتباك، وهو أمر حمل الكثير من علماء الفيزياء الكبار على الإيمان بالله الذي خلق الكون ونظم حركته على هذا النحو البديع الدقيق المطرد بلا تفاوت. وإنما تستهدف تلك القوانين الكثيرة في أميركا – وغيرها - ضبط حرية الإنسان في علاقاته وتعامله وتفاعله مع الآخرين حتى لا يتصرف (كما يحلو له، وبالأسلوب الذي يهواه) كما يقول ميل.. إن (الحرية المطلقة) – كما يتوهمها الخياليون - تؤدي إلى العدوان على حريات الناس الآخرين، وانتهاك حقوقهم وخصوصياتهم.. لنقرأ ما كتبه فريد كيت، في كتابه: الخصوصية في عصر المعلومات. قال: «إن أخطر تهديد للاستقلال الذاتي للفرد هو إمكانية أن يقوم شخص – أو جهة ما - باختراق منطقته الداخلية، ويعرف أسراره الجوهرية، سواء بوسائل مادية أو نفسية.. إن هذا الاختراق المتعمد لقوقعة الفرد الواقية، ودرعه النفسية من شأنه أن يجعل الفرد عاريا وأن يعرضه للسخرية والخزي، ويضعه تحت سيطرة هؤلاء الذين عرفوا أسراره».. وطبيعي أنه لكي يحمى الإنسان الفرد من هذه الانتهاكات الشنيعة، يتعين لجم (حرية) آخرين يمارسون حريتهم كما يحلو لهم، ولو في اختراق خصوصية وحقوق وحرمات آخرين: هم ناس أيضا!! لا بد للناس من حرية. فإنسان ناقص حرية يساوي بهيمة تعيش بالغريزة وحدها، أو يساوي حجرا أو يساوي عدما.. ومع ذلك لا بد للناس من دولة، ونظام ينظم حرياتهم وحقوقهم، ويلجم – بالقوانين – الفوضى التي تهدد الحريات والحقوق كافة.. إن فرانسيس فوكوياما غير متهم بمعاداة الحرية، بل هو من الغلاة الكبار في تمجيدها عبر كتابات له كثيرة، من أبرزها كتابه الشهير (نهاية التاريخ وخاتم البشر).. يقول في كتابه – بناء الدولة - : «بناء الدولة بصيغة قوية يشكل اليوم إحدى أهم قضايا المجتمع العالمي. فعدم وجود دولة أو وجود دولة ضعيفة أو فاشلة يمثل مصدرا للعديد من أكثر مشكلات العالم خطورة في مجال الفقر والمرض والبطالة والمخدرات والإرهاب والفوضى المتنوعة البواعث والأشكال». وقبل أن يطرب المستبدون بهذا الكلام: نطرح المعضل المقابل وهو: إن (الأمن) – أمن الإنسان الفرد وأمن المجتمع والدولة – لا ينبغي أن يكون أداة أو ذريعة لمصادرة حرية الإنسان. لماذا؟.. لأنه لا تعارض – قط - في حقيقة الأمر بين الحرية الحقة التي لا يستطيع الإنسان أن يعيش من دونها والأمن الضروري الذي لا يُتصور وجود دولة ولا مجتمع في غيابه. وإنه لمن الجنون: إلجاء الناس إلى هذه المقابلات الخاطئة – فهما وتطبيقا - : إما الحرية وإما الخبز.. إما الوطنية وإما العالمية.. إما الدين وإما الدنيا.. إما الانفتاح على العالم وإما ذوبان الهوية فيه. إما الحرية وإما الأمن!! إن الإنسان محتاج إلى ذلك كله: محتاج – مثلا - إلى الأمن والحرية معا، لأنه لا أمن بلا حرية، إذ الكبت بركان صامت يهدد الأمن في الصميم، ولأنه لا حرية بلا أمن، وإلا فهي الفوضى الضاربة التي ينعدم فيها طعم الحرية، وتضيق فيها مساحتها أضيق ما تكون. وبالانتقال إلى الواقع الماثل نقول: في تونس ومصر وليبيا، اتسعت مساحات الحرية بعد حدوث ما سمي – خفة وقصر نظر - ب(الربيع العربي).. ونحن – بلا ريب - مع مساحات الحرية الواسعة. فهو أمر نعيش به وله.. وليس عيبا أن يتسع نطاق الحرية في بلد ما، ولكن العيب الجسيم والخطيئة الكبرى: ضعف الإحساس بالأمن في ظل الفرحة بالحرية.. لقد أعقب سقوط الأنظمة في البلدان الثلاثة: فوضى تتناسل يوما بعد يوم حتى لتكاد تتعطل حركة الإنتاج والنماء في بلدان هي أحوج ما تكون إلى كل ثانية من وقتها، تصرفها في الإنتاج والإنماء لتشبع بعد جوع، وتروى بعد عطش، وتتداوى من أمراض تطول قائمة أسمائها.. يُضم إلى ذلك أنها فوضى أريقت فيها دماء معصومة، وارتاع فيها الآمن، وزادت فيها معدلات البغضاء والشحناء عن درجاتها الطبيعية في مثل هذه الصراعات السياسية في وطن واحد!! ولا شك في أن هناك عوامل خاطئة في التفكير والتثقيف أدت إلى الاستهانة ب(الأمن) إلى درجة الاستهتار، من هذه العوامل: 1) يكاد المفهوم الأمني يكون غائبا عن الثقافة العربية الإسلامية. وهو غياب يستند إلى ما هو أسوأ منه وهو: الظن أو الوهم بأن (الأمن) شأن الحكومات وحرفتها وسلطتها المرعبة، على حين أن الأمن – بمفهومه السوي - هو شأن المجتمع كله. والسبب بدهي وهو: أن المجتمع هو الذي يتمتع بهذا الأمن، ويصرّف حياته وشؤونه من خلال مناخه. 2) إن السلطات الحاكمة – في الغالب - شريكة في صنع هذا المفهوم الغريب العجيب المريب، هي شريكة في ذلك من خلال ممارساتها الرعناء التي تؤكد للناس بأن الأمن أمنها هي لا أمن الناس، أي أن الأمن هو (أمن السلطة)، لا أمن الناس كلهم في مجتمعهم المستظل بظل الدولة: هكذا كانت أنظمة حسني مبارك، وبن علي، ومعمر القذافي. مما يدل – بالقطع - على أن هذا المفهوم الأمني الخاطئ غير مجد، وغير مثمر، وغير آمن!! وهو مفهوم تبلور بعيدا عن تصور مهمة أساسية من مهام الدولة، أي مهمة أن الحكومة الناجحة الصالحة تنحصر – في هذا المقام - في (إقامة توازن عادل – وواقعي - بين مطلبي: الحرية والأمن). وفي هذه الظروف العصيبة: لسنا ننتقص من قيمة الحرية ذرة واحدة، عندما نسأل – بصراحة كاملة - : ما أولويات الناس أجمعين على هذا الكوكب؟ لعلها الحرية أو الهرولة إلى الله أو الغذاء الجيد أو العلاج الناجع أو الاستقرار السياسي أو الزواج السعيد. أو المسكن المحترم أو تعليم الأولاد تعليما جيدا؟.. لا ريب في أن هذه – ومثلها معها - أولويات للأناسي المنتشرين في الأرض – كل بحسبه - .. ومهما اختلفت مطالب الناس، فإنهم متفقون على مطلب أول جامع يهتف به الجميع ويجعلونه الرقم (1) في أجندة حياتهم الخاصة والعامة.. هذا المطلب المتفق عليه هو (الأمن) – بمعناه الشامل المتماسك. واتفاق الناس على هذا المطلب مؤسس على عقلانية واقعية راشدة: إن المطالب الأخرى كافة: تفقد قيمتها وحلاوتها حين يُفقَد الأمن الحقيقي في المجتمع والدولة.