تنظم مؤسسة علال الفاسي يومي الجمعة والسبت جلستين للاحتفاء بالفكر التاريخي، حيث سيقوم الدكتور محمد القبلي مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، رفقة الدكتورين حافظي العلوي وعبد الرحمان المودن، بتقديم باكورة إنجازات المعهد وهو المجلد الجامع " تاريخ المغرب ". وفي الجلسة الثانية سيقوم الدكتور جامع بيضا مؤسسة أرشيف المغرب، والدكتور عبد الرحيم بنحادة مشروع ماستر تاريخ المغرب الراهن. وفيما يلي مقال لي لتحية هذا المجهود الفكري الذي يتبلور منذ عدة سنين على يد الباحثين المغاربة الذي قاموا بتغطية جوانب كانت مليئة بالثغرات من تاريخ المغرب. فأرجو أن يجد المقال مكانه في صفحات الجريدة في هذه الأيام القادمة. في وقت مبكر من تبلور الحركة الوطنية المغربية تمت تجربة فريدة للتعبير عن تصورات الشبيبة بشأن القضايا التي كانت تشغلها، إذ وجه محمد داود من تطوان لأقرانه في الجنوب استطلاعا وطرح عليهم أسئلة بشأن تصوراتهم لطرق مواجهة الاستعمار، وتحقيق النهضة (سماها ّأحدهم، الطفرة) ومحاربة الطرقيين. وقد رصد كل ذلك أحمد الزيادي في كتابه "رسائل وطنية " الذي ضم نصوصا وتحليلات سلطت الضوء على ما كان يشغل النخبة الوطنية الطلائعية، إذ ذاك. وتكررت التجربة فيما بعد في مجلة السلام (تطوان، أكتوبر 1933) وفي مجلة " المغرب الجديد " (تطوان، يونيو 1935) حيث تداعت النخبة المثقفة إلى الإعراب عن ذاتها، في مختلف المجالات مع تركيز على التاريخ. وكانت إحدى دورات مؤتمرات " جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا " قد جعلت محور الأبحاث المقترحة على المؤتمرين، كيف يدرس تاريخ المنطقة. وطيلة الوقت الذي أعقب معركة مناوءة "ظهير 16 مايو 1930 " خاض متزعمو تلك المعركة في عروض ونقاشات تاريخية متشعبة خاصة بالفرنسية في مجلة " مغرب " التي أصدروها في باريس. ونشرت في " السلام " مواد متفرقة عن الماضي التاريخي القريب للمغرب للتدليل على أن الواقع الذي فرضته الحماية إنما هو واقع طارئ. وفي العدد 2 من " المغرب الجديد " وجهت المجلة إلى قرائها أسئلة ترمي من ورائها إلى التأمل في تاريخ البلاد. وفي وقت متقارب (1936) أصدر علال الفاسي وعبد العزيز بن ادريس في القاهرة تحقيقا لمقدمة ابن خلدون اعتبره أحمد أمين أدق من طبعة بولاق التي لم يتردد في أن يعتبرها سقيمة. وكان ابن خلدون موضوع مقالين في العددين 7 و8 من "المغرب الجديد " ويتعلق الأمر ببحث لمحمد الطنجي بعنوان " الإمام إبن خلدون وتاريخ المغرب ". وانفتحت شهية كتاب المجلتين للتطرق إلى موضوعات من قبيل اليوسي (علال الفاسي الأعداد 4 و5 و 7) وموشى ين ميمون ( بلا توقيع، وقد يكون للناصري ). و انكب أفراد ذلك الجيل على مادة التاريخ، وعيا منهم بالخصاص الذي يكتنف المصادر، وشعورا بأثر الحملة الكولونيالية الهادفة إلى كتابة تاريخ للمغرب بكيفية تضع تفسيرا لتاريخ المغرب يبرر التمهيد الذي كانوا يقومون به لصنع مصير جديد, ولم تفتر الشبيبة المغربية عن الانشغال بهذا الموضوع الخطير، وذلك بتقديم قراءة مغربية لتاريخ بلادها، في غمرة المعارك السياسية التي اقتحمتها. فألف الهاشمي الفيلالي عندما خرج من السجن كتابا مدرسيا في الموضوع يكون مرجعا للشبيبة المعرضة للاستلاب. بينما حرص المختار السوسي وقد رأى أن المقام سيطول في اغبالو ن كردوس على أن يلتزم بتقديم دروس في التاريخ جعلها تتركز على فترة المرينييين. وفي الفترة التي أقبل المثقفون الملتفون حول المكي الناصري في مجلة " المغرب الجديد " بتطوان حول موضوعات تهم التاريخ تناول في جزء منها امحمد بنونة التاريخ الوسيط ومصطلح "المخزن "، ورجع آخرون إلى التاريخ القريب فنشروا لأول مرة مشروع أول دستور لتنظيم الحكم أنجزته النخبة المناهضة لأوفاق الخوزيرات، وحاولوا في تدخلات سريعة اكتست نفسا تعبويا استمرت في مختلف النوادي الأدبية بل وحتي العمل المسرحي لتوجيه الرأي العام نحو النظر إلى تاريخه على عكس ما كانت المناهج الدراسية تسعى إليه. وحينما منع النشاط السياسي في الجنوب بعد نفي القادة طيلة الحرب العظمى الثانية اشتغلت النخبة بعد ما خرجت من السجون بالتأمل في تاريخ المغرب لإثبات أنه ليس كما يروجه الاستعماريون. ونشرت أبحاث عن التراث الأندلسي وعن ارتباطه العضوي بالمغرب، وانهمك الوطنيون على مجادلة بعض ما ذهب إليه بعض المستشرقين وبعض المشارقة من تجن على أهمية دور المغاربة، بل وظهرت مجلة باسم العدوتان لعبد الكبير الفلسي، لبيان أن المغرب والأندلس شيء واحد. و كانت باكورة أعمال بلافريج الادبية هي كتابه الأدب الأندلسي، بالاشتراك مع ع.ج.خليفة. ومثله صنع م ح الوزاني حينما خصص أجزاء من مذكراته "حياة وجهاد" حيث قدم التراث الأندلسي كشيء مغربي صميم. وفضلا عن أسبقية بنونة المذكور أعلاه في التطرق إلى التاريخ السابق للإسلام جاء علال الفاسي فأفاض في شرح اعتزاز المغاربة بتاريخهم قبل الإسلام، مبينا أن ذلك الاعتزاز نابع من شعور طبيعي يشمل المغاربة وباقي المغاربيين. وقد فصلت القول بهذا الصدد في بحث نشر في العدد الثاني من مجلة " النهضة " التي أخذ ينشرها الصديق ن. العوفي حيث أوردت مقارنة لمقولات علال مع ما ذهب إليه الجزائري على الحمامي، الذي شرح بكيفية منطقية كيف أن العالم الإسلامي كان فيه فرس وترك وشرق أوسطيون دعاهم الحصري وأنطون سعادة إلي الانضواء إلى " القومية " العربية وهو قول لم يقبله علال وأبرز أن كلمة القومية تطرح إشكالا بالنسبة للمغاربة واستعمل هو والحمامي بارتياح أكبر عبارة " المغاربيين ". ولم أفرط في المناسبة التي أتاحتها لي كتابات محمد شفيق الذي استبعد بتاتا عبارة " المعرب العربي ". وهكذا نرى أن تفسير التاريخ المغربي بأدوات مغربية ليس ابن الساعة التي نحن فيها بما في ذلك الغوص في التاريخ القديم السابق للإسلام. وفي هذا السياق تبدو لنا رواية " الكاهنة " لعبد الرحمان الفاسي إنما تدخل في نفس المجهود الفكري للحركة الوطنية المندمج في معركة متعددة الأبعاد لاستعادة الكيان الذي تعرض للتلاشي في 1912. وقد توالت بعد الاستقلال مجهودات أكثر تركيزا اقتضت استعمال أعتدة قوية واطلاعا واسعا على المصادر كما صنع المانوني وإبراهيم الكتاني وعبد العزيز بن عبد الله، دون أن ننسى السابقة الجليلة في نهاية الثلاثينيات " النبوغ المغربي " الذي صدر بشأنه قرار لرئيس أركان الجيوش الفرنسية بالمغرب قضى بمنعه من الدخول من المنطقة الشمالية بحكم أنه "يشوش أفكار الشبيبة ". لقد انكب الباحثون المغارية في حقل التاريخ على إغناء رصيدنا وملء كثير من الثغرات وذلك يتمثل في المئات من الأبحاث والترجمات والوثائق التي صدرت في السنوات الأخيرة حتى أن السجل الزاخر الذي رصد فيه ع.ه. التازي وثائق من التاريخ الديبلوماسي للدولة المغربية كان يتضمن فصلا مقتضبا عن المغرب وروسيا، بينما أصبح بين أيدينا الآن مجلد يضم لا أقل من 500 وثيقة. وفي نفس المضمار يجب أن نشير إلى أنه بفضل ما أنجزه خالد بن الصغير لم يبق هناك سر في العلاقات المغربية البريطانية. وهذا نفس صنيع بنحادة في العثمانيات وما فعله كنبيب والفاتحي وغيرهم كثر, لقد أصبح معروفا بتفاصيله تاريخ الواحات والمراسي والزوايا والقبائل. وليس بدافع المناصفة أذكر بفاطمة الحراق والزوانات وحليمة فرحات وثريا برادة. بينما اكتشف أبو شارب وعثمان المنصوري ما في المصادر البرتغالية من معطيات غنية وكذلك الباحثون في الإٌسبانيات. فهذه الندوة التي تنعقد عن التاريخ هي تكريم للمجهود المكثف الذي بذله الباحثون بدون حفز من الدولة. وهي إشادة لابد منها بأن كل ما أنجزه المغاربة أمس واليوم هو بفضل الأريحية والكد والسعي العلمي الجاد. ويكفي التذكير هنا بأن " المعلمة " هي بالذات ثمرة عمل صانه وأشرف عليه حجي، ويثابر على مواصلة ذلك المجهود الجبار زميله إبراهيم بوطالب. وقد قام ذلك العمل الجليل بمجهود تلقائي سبق أن قارنته في بداية التسعينيات بأنه أشبه شيء بعمل خالد كان بدوره ثمرة المجتمع المدني وهو جامعة القرويين. إنها فرصة لتكريم اللأولين والاخرين واحتفال بالمعرفة التاريخية وإذكاء للوعي بالتاريخ.