حررت القوات الفرنسية والأفريقية المصاحبة لها مدينة «تمبكتو» في دولة مالي بوسط أفريقيا بعد أقل من عام من اجتياحها بواسطة قبائل «الطوارق» ثم تسليمها لجماعة «القاعدة في بلدان المغرب الإسلامي» والتي حكمتها وفقا لما قررت أنه قواعد «الشريعة» الغراء. وأثناء عملية «التحرير» التي جرت، كانت جماعات «إسلامية» كثيرة جهادية وسلفية قد بدأت في إدانة ما رأته عودة للاستعمار مرة أخرى، وتبارى الجميع في توضيح الثروات الهائلة التي تتمتع بها دولة مالي من أول الذهب الذي ليس له أول ولا آخر، وجبال اليورانيوم الثمين الذي من دونه تتوقف محطات للطاقة، ولا تنتج القنابل الذرية، ولم تنس بعض التقارير الإشارة إلى أنه ترقد تحت الرمال الناعمة الممتدة في الصحراء الأفريقية كميات هائلة من النفط. وهكذا قيلت الكلمة السحرية التي يعرفها العرب والمسلمون لأن من لم يعرفوا الغنى طوال قرون كثيرة لم يعرفوه إلا مرتبطا بالذهب الأسود، أما الذهب الأصفر فرغم أنه ورد كثيرا في قصص «علي بابا» و«السندباد» و«ألف ليلة وليلة» فإن العربي الحديث لم يعرفه كثيرا. ولكن النفط قصة أخرى، فالغنى الذي جاء إلى بلادنا عرفناه مدنا وأبراجا وحواضر واسعة القدرة والإمكانات التي تجذب ليس فقط عربا آخرين، وإنما معهم كل جنسيات وحتى جيوش العالم!. إذن فإن الجيوش الفرنسية ومن معها من جيوش أفريقية جاءت من أجل ثروات طائلة ويقع في مقدمتها «النفط» ومعه كل شيء آخر؛ وهكذا صارت القصة «استعمارية» بامتياز. ولكن السؤال الذي لا بد وأن يلح فورا هو إذا كانت دولة مالي لديها كل هذه الثروات، فلماذا تعد من أفقر بلدان العالم، بل إنها من أكثر دول أفريقيا الفقيرة فقرا؟ فليس سرا على أحد أن مالي تشغل قاع سلم دول العالم حيث تشغل المكان 178 في تقرير التنمية البشرية، بينما لا يتجاوز دخل الفرد 600 دولار كثيرا على الرغم مما هو شائع عن الذهب والنفط. ومن المدهش أن تكون الدولة فيها كل هذا الفقر بينما مساحتها تزيد على مليون كيلومتر مربع وعدد سكانها لا يتعدى 14 مليونا بكثير، أي إن لديها أربعة أمثال مساحة اليابان يعيش عليها ما يقرب من عشر عدد السكان، ومع ذلك تنتهي إلى كل هذه الفاقة وهذا الكم من التعاسة المتمثلة في أنظمة سياسية متهافتة، وأخرى اقتصادية بدائية، وثالثة اجتماعية لم تعبر بعد القرون الوسطى. ولماذا تبدو المسألة هكذا مفاجأة حينما يكون الغنى الكثير من ذهب ومرجان وياقوت التي تزدهر عادة في مغارة علي بابا عنوانا على فقر مدقع؟ القصة كلها تجمعت في مدينة صغيرة هي «تمبكتو» التي هي على الرغم من صغرها حيث لا يزيد سكانها على نصف مليون نسمة تعد بمعايير دولة مالي من أهم وأكبر المدن، بل إنها من أكثرها أهمية وهي الأكثر شهرة حتى من باماكو العاصمة لسبب بسيط وهي أنها من الحواضر العظمى للحضارة الإسلامية في وسط وغرب أفريقيا. المدينة لأسباب تاريخية وجغرافية كثيرة صارت من علامات الحضارة الإسلامية في تلك المنطقة من العالم، حيث جامعة أو مدرسة ممتلئة بالدارسين، ومعهد علمي مزدحم بالمخطوطات الإسلامية النادرة، التي يراها أهل المدينة جزءا من تراثهم التاريخي، بل جزءا من هويتهم التي يلتحم فيها العلم والفقه مع أولياء الله الصالحين. ولكن «البرابرة» جاءوا إلى المدينة؛ وكانت البداية جزءا من آفات العالم الإسلامي والأفريقي حيث الفشل في التعامل مع مشكلات الأقليات، والفشل في إقامة نظام الحكم الذي يسمح باستيعاب الأقليات سواء كانت دينية أو عرقية. وببساطة فشلت مالي في التعامل مع قضية «الطوارق» الذين يشغلون شمال البلاد، ويشكلون 10% من السكان. ولكنهم الآن لم يعودوا كما كانوا، «فالربيع العربي» جعل قضايا الديمقراطية تلتحم مع قضايا الانفصال والتفتيت، ولم يكن «العسكر» لديهم الحساسية للتعامل مع قضايا معقدة ففضلوا الانقلاب على التفاوض وحل الأزمات. النهاية كانت أن الطوارق قاموا بغزو «تمبكتو». ومن بعدها دخلت جماعات «القاعدة» لكي تهدي بلدا إسلاميا حتى النخاع، على طريقتها الخاصة التي تحيل البلدان من حالتها الطبيعية إلى نسخة أخرى من الحالة «الحضارية» للدولة الأفغانية تحت حكم طالبان. حكت صحيفة «نيويورك تايمز» القصة كلها عندما جمعت جماعات «القاعدة»، أو المنتسبة إلى تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي»، الذين جاءوا فوق عربات مسلحة بالمدافع، أهل المدينة لكي يضعوا لهم دستورهم «الإسلامي» الجديد. كان الأمر مدهشا في مدينة لم يكن الإسلام أبدا غريبا فيها، وبدا الموضوع كأن هناك من يريد بيع الماء ساعة انهمار المطر. ولم يفهم الناس كيف يمكن توزيع التعليمات الإسلامية تحت تهديد السلاح، والترويع بتطبيق حدود لمن هم ليسوا بصالحين لا للفتوى ولا للأمر في أمور الدين. ومن غرائب ما قيل أن جماعة «القاعدة» عقدت اتفاقا مع مستشفى المدينة أن يقوم بعلاج مرضاهم وجرحاهم ويقدموا لهم كل ما يطلبون من نصائح طبية؛ وكل ذلك مقابل أن يسمح لهم بالرعاية الصحية لأهل تمبكتو. ولم يمض وقت طويل حتى كان الأطباء في المستشفى يستدعون لمباشرة عمليات قطع الأيدي لمتهمين عشوائيا بالسرقة، والرجم للمتهمين بالزنى في مدينة عرفت التقاليد الإسلامية في العفة طوال تاريخها. كان الأمر كله عبثيا، فالأطباء كما تعلموا وظيفتهم توصيل الأوصال المقطوعة وليس التأكد من فصلها. كانت هذه قصة الصحيفة الأميركية عما جرى في تمبكتو، وكان في القصة جانبها البطولي أيضا فأهل المدينة وسط هجمات الترويع والتخويف والاغتصاب والقتل نجحوا في تهريب 28 ألف مخطوط من بين 30 ألف شملهم المعهد العلمي في المدينة والذي أصرت الجماعة «الجهادية» على أن تحرقه حتى سوته رمادا قبل أن ترحل هاربة من المدينة بعد بداية القصف الفرنسي. تحرير تمبكتو ربما كان خطوة في عملية طويلة للتفكير والفهم لتلك الموجة الجديدة من التطرف التي تجتاح الإقليم كله تحت راية الإسلام، والدين الحنيف منها براء.