تتملكني الدهشة أحياناً مما أراه على صفحات المواقع الاجتماعية من استعراض مفرط لما كان يسمى حتى وقت غير بعيد حياة «باطنية». ربما كانت صفحات «فايسبوك» و «تويتر» اليوم أنجع وسيلة للنشر. لا أقصد نشر ما يجول في الخاطر من أفكار وما تخطّه اليد فحسب، وإنما نشر «كل الغسيل»، نشر كل ما يخالج النفس ويخطر بالبال، نشر الحياة الباطنية بكاملها، والكشف عن الأذواق والإحساسات والميول والعواطف، واستعراض كل الحركات والسكنات... ربما لا تشكل هذه المواقع إلا صورة قصوى لما يطبع الحياة المعاصرة من «عري» تعكسه شاشات التلفزة وصفحات المجلات التي لا ترى مانعاً في أن تنشر كل شيء عن نجوم السينما والغناء، وحتى نجوم السياسة والثقافة، بحيث لا تكاد تميز بين ما كان يعتبر «شأناً خاصاً» وما يحسب على الشأن العام. كان الكاتب الفرنسي جورج برنانوس قد تنبأ في أوائل القرن الماضي بما ستؤول إليه الأمور عندما كتب: «إننا لن نتمكن من فهم حضارتنا ما لم نسلّم بدءاً بأنها تآمر ضد أيّ شكل من أشكال الحياة الباطنية». ذلك ما كان بعض الفلاسفة الوجوديين قد تنبهوا إليه أيضاً عندما كانوا يتوقفون عند السابقة التي تسبق فعل الوجود ek-sister ليؤكدوا أن الوجود البشري وجود «في الخارج»، وأن «الإنسان برّا» كما كان يحلو لأستاذنا نجيب بلدي أن يقول بلهجته المصرية. غير أن هذه «البرّا» لا يظهر أنها تقف اليوم عند ربط ما كان يسمى حياة باطنية بالموضوعات الخارجية، وإثبات «قصدية» أفعال النفس، وإنما تتجاوز ذلك لتجعل إخراج ما في البواطن، والكشف عن كل ما يخالج الصدور، وفضح كل مستور، عمليات مرغوبة لذاتها تلذذاً بالفرجة واعتباراً أن ما يهم هو أن نُرَى، أن نكون محط رؤية و «داخل مشهد». ولا شك في أن شاشات التلفزة قد وجدت ضالتها في هذا «العري» المرغوب فيه، كي تستثمره في برامجها، وتفتح باب المنافسة للذهاب به إلى أبعد ما يمكن. ويكفي أن نذكر بعض البرامج التلفزيونية كبرنامج «التيليريالتي»، كي نتصور إلى أي حد يستطيع الفرد اليوم أن «ينشر» حميميته. لكن ماذا لو كان الأمر لا يتعلق إلا بوهم حميمية؟ وماذا لو كان الفرد لا يملك حتى هو نفسه التحكم في «عريه»؟ ذلك أن هذا العري يظل في النهاية عرياً غامضاً، عرياً يلفّه اللبس، عرياً في حاجة إلى تحليل وكشف. فالفرد لا يكشف في النهاية إلا ما يعتقد هو أنه ينطوي عليه من أسرار. وإذا كان مآل السر أن ينفضح في نهاية الأمر، فإن الغموض لا يسهل كشفه، وإنسان العصر الحديث من الغموض بحيث لا يستطيع أن ينكشف دوماً لنفسه، وبالأحرى أن يكشف نفسه للآخرين.