يقدّم صعود الأحزاب والحركات الإسلامية إلى السلطة في أغلب بلدان الساحل الجنوبي في حوض البحر الأبيض المتوسط مشهداً غير مألوف. وفي محاولة لاستشراف نيات الحركات الإسلامية واتجاهاتها، يقوم منتقدوها المحليون من علمانيين ليبراليين وغير ليبراليين، أسوة بالمراقبين الخارجيين وبخاصة الغربيين منهم – حكومات ووسائل إعلام ومستثمرين – بفحص الأجندات الأيديولوجية الإسلامية. فهل تنتهي المناقشات حول تعديل الدساتير في دول عدة إلى إقرار الشريعة مصدراً رئيساً للتشريع أم المصدر الرئيس له؟ وهل تنعكس آراء الشخصيات الإسلامية الأكثر محافَظةً إزاء الدور «الرديف» للنساء في المجتمع – بدلاً من التساوي مع الرجال – في التشريعات الجديدة أو في الممارسة الفعلية في نهاية المطاف؟ هذا ويلعب العنف، الذي يرافق بعض حالات تعبير المجتمعات الإسلامية عن استيائها مما تراه مسيئاً للإسلام، دورَه أيضاً. فإن مقتل السفير الأميركي في ليبيا واعتداء بعض السلفيين التونسيين على الجامعات ودور السينما والمعارض الفنية، لم يؤدّيا سوى إلى تذكية القلق في تلك الدول وفي الخارج بأن السياسات الإسلامية ستحكمها المعايير الأيديولوجية في المقام الأول، وأن العلاقات بالآخرين ستقع ضحية اختلاف الثقافات. إلا أن القوى الإسلامية التي تبوّأت الحكم تجد نفسها أيضاً وسط مشهد غير مألوف. فيترتّب عليها أن تتعلّم كيفية العمل كأحزاب سياسية مُسجَّلة قانوناً – لا ك «جمعيات» ممنوعة – في إطار نظم سياسية ناشئة متعددة الأحزاب تتطلّب منها الشفافية والخضوع إلى مساءلة الناخبين بدلاً من مناصريها الذين تعوّدوا الانغلاق والتراص والولاء الشديد. لا تزال «قواعد اللعبة»، الرسمية وغير الرسمية على حدّ سواء، آخذة في التكوّن عبر التفاوض في البرلمانات والجمعيات التأسيسية، أو عبر التجاذب والتنافس في حلبة الشوارع والميادين العامة. كما تدور العملية التكوينية وسط الجدال والصراع الأوسع حول ترسيخ الأطر الدستورية الجديدة، حيث تتعلّق الأسئلة الأساسية لا بموقع الشريعة ومكانتها، بل بتوازن السلطات بين رؤساء الدول ورؤساء الوزراء والبرلمانات وباستقلالية القضاء. فيتوقّف مصير الحكومات التي يرأسها إسلاميون أو التي يشكّلون فيها شركاء رئيسيين – أي في مصر وليبيا وتونس والمغرب – في نهاية المطاف على مدى نجاحهم أو فشلهم في معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي تواجهها هذه الدول. ويترأّس القائمة الفقر الواسع النطاق، والبطالة المتزايدة، والتباين في الدخل الآخذ في الاتساع – وكل ذلك يعزّز تهميش شرائح اجتماعية هامة ويعمّق الهوّة بينها وبين ذوي الدخل الأعلى. وينبغي على تلك الحكومات أن تقلب هذه الاتجاهات، على رغم تراجع النمو الاقتصادي أو تأرجحه وتدني الاستثمار الخارجي المباشر في القطاعات الاقتصادية المنتجة – بدلاً من القطاعات التي تتّسم بالمضاربة كالعقارات والأسواق المالية، التي يفضِّلها أصحاب رأس المال والتي تزيد من تركيز الثروة في أيديهم ومن التباين في المدخول. تجد الحكومات الإسلامية نفسها في مأزق. فقد أتت إلى الحكم، إلى حد كبير، بسبب فشل النظم السلطوية التي سبقتها في معالجة التحديات عينها. ولكن على الحكام الجدد (مع شركائهم غير الإسلاميين) أن يواجهوا أيضاً الآثار الإضافية للاضطراب الاقتصادي وتراجع ثقة المستثمرين (في الداخل والخارج) اللذين رافقا التحولات الاجتماعية والسياسية منذ العام 2011. ومن سوء حظ الأحزاب الإسلامية أنها تولّت المسؤولية عن رسم السياسات الحكومية وتنفيذها في مواجهة اتجاهات عالمية خارجة عن سيطرتها، ومنها ارتفاع أسعار الأغذية مجدداً، للمرة الثالثة منذ موجتي ارتفاع الأسعار في العام 2008 وأواخر العام 2010، ما أدّى حينذاك إلى اشتداد التوترات الاجتماعية وتوفير الظروف المحلية المُمهِّدة، تمهيداً لاندلاع انتفاضات «الربيع العربي». وتُضاف إلى التطورات الكبرى العالمية أزمة «اليورو» وما يصاحبها من انكماش الاستثمار دولياً، فضلاً عن زيادة بطالة الشباب التي تتوقّع منظمة العمل الدولية أنها ستزداد سوءاً خلال السنوات الخمس المقبلة، وبخاصةً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث ستصل نسبة البطالة بين جيل الشباب إلى 27-28 في المئة بحلول العام 2017. إنّ أي حكومة مهما كان لونها السياسي، علمانية أو غير ذلك، كانت ستواجه التحديات نفسها، وكانت ستسعى إلى معالجتها بالطرق نفسها على الأرجح. ويؤدي القلق من أنّ الأجندات الأيديولوجية الإسلامية ستسفر عن عدم استقرار سياسي، إلى ردع المستثمرين الخارجيين وبعض المحليين، ولكنه لم يحمل الحكومات الغربية على وقف أو تقليص العمل بالاتفاقات التجارية أو توفير الائتمانات المالية أو برامج المساعدات، أي أنّ التحديات الحقيقية التي تواجه الحكومات الجديدة في جنوب حوض المتوسط لا صلة لها بطابعها الإسلامي. غير أنه لو فشلت تلك الحكومات في إيجاد الحلول الناجعة، فسيُعتَبَر ذلك فشلاً للنموذج الإسلامي للحكم بكامله. يتضمّن ذلك مفارقة. فإنّ الأحزاب الإسلامية المشاركة في الحكم الآن، والتي تعتبر نفسها جميعاً «وسطية»، تتبنّى السياسات «الليبرالية الجديدة» («نيو» ليبرالية) في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، بل إنّ تعلقها الشديد بالمُلكية الخاصة، وإيمانها باقتصاديات السوق الحرّ، ورغبتها في استبدال دور الدولة الرئيس في تأمين الرعاية الاجتماعية بدور متزايد للعمل الخيري وللزكاة، وتمسّكها بالقيم الاجتماعية المُحافِظة وتوجّهها الإيماني إلى مكانة المرأة، إنما تجعل منها أقرب ما تكون عقائدياً إلى الجمهوريين أو «اليمين المسيحي» في الولاياتالمتحدة، والمسيحيين الديموقراطيين في أوروبا. ثمة مفارقة أخرى هي أنه على رغم هذا التشابه العام ما بين الأحزاب الإسلامية الرئيسة في جنوب حوض المتوسط، لا يوجد «ناد إسلامي» يجمعها فعلياً. فلا توجد مؤشرات على تحوّل استراتيجي للعلاقات الاقتصادية – ناهيك عن السياسة الخارجية – باتجاه إقامة المناطق الاقتصادية المشتركة في ما بينها أو مع الدول الإسلامية الأخرى. كذلك لا يوجد دليل مُقنِع على البدء بحوار جدّي بين «دول الجنوب العالمي» أو على التوجّه نحو مجموعة ال «بريكس» (أي البرازيل وروسيا والهند والصين وأفريقيا الجنوبية) - على رغم الزيارة التي قام بها الرئيس المصري محمد مرسي إلى الصين – بهدف إيجاد بديل للعلاقات الثنائية القائمة منذ زمن طويل مع الشركاء التجاريين ومصادر التمويل في الولاياتالمتحدة وأوروبا. كما أنّ الحكومات الإسلامية في جنوب المتوسط تتمايز عن بعضها بعضاً في أوضاعها السياسية وسلوكها الاقتصادي، تماماً مثلما تمايزت الحكومات التي سبقتها. فقد تم استيعاب حزب «العدالة والتنمية» المغربي، جزئياً، داخل نظام الفساد المبرمج السائد، فيما يعاني في الوقت نفسه من تجاوز الملك محمد السادس لصلاحيات رئيس الحكومة والوزراء. أما الأحزاب الإسلامية في الجزائر التي دخلت البرلمان منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل عقد من الزمن، فلا سلطة حقيقية لها، ولكنها انخرطت أيضاً في النظام الزبائني المُستنِد إلى الدولة – وحصل ذلك جزئياً من خلال توزيع الحقائب الحكومية أو منح بعض الرخص التجارية. وفي ليبيا، الغنية بالنفط، من غير المتوقع أن يزول إرث الاتكال على الدولة لتوفير الوظائف والاستثمار والزبائنية، مهما كانت الوجهة الأيديولوجية للحكومة. أما في مصر وتونس، قد تتجه النخب الإسلامية الجديدة إلى تحرير الاقتصاد بقوة بغية تحفيز النمو السريع لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولكنها قد تعكف في نهاية المطاف على السعي إلى إحلال نفسها مكان النخب «العلمانية» السابقة في السيطرة على رأس المال المركّز. إلا أنّ الأزمة الاجتماعية المتنامية في جميع بلدان جنوب المتوسط، والمتمثّلة بازدياد البطالة ونقص المساكن وتراجع الخدمات العامة وتآكل البنية التحتية (وبخاصةً توفير المياه الصالحة) وهشاشة نظم التأمين الاجتماعي، تضع الحكومات الإسلامية أمام فرصة زمنية ضيّقة لإيجاد الحلول.