تحدث الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، في هذا الحوار الذي أجرته معه مجلة جامعة صوفيا للدراسات الآسياوية، عن طفولته وتعليمه وبداياته الأولى في النضال، مؤكدا أن والده الذي كان عضوا نشيطا في حزب فرحات عباس، هو الذي أطلق عليه اسم الشاذلي تيمنا بالطريقة الشاذلية، وتحدث الراحل بن جديد، مطولا عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقال إنها لعبت دورا إيجابيا في التحرر غير أن نظرتها كانت تقليدية للمرأة، كما تناول الحوار مرحلة الستينيات والسبعينيات التي شهدت تطبيق النظام الاشتراكي القريب من الشيوعية، وهو ما أدى حسبه إلى بلبلة في المجتمع الجزائري وفتح الباب واسعا أمام التطرف الديني. وبخصوص أحداث أكتوبر 88، قال "أنها جاءت نتيجة للإصلاحات التي قمت بها، وما يقال بأن الأحداث هي التي جاءت بالإصلاح والانفتاح خاطئ تماما". وقال إن الشعب الجزائري فيما بعد صوت لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ، انتقاما من المسؤولين في جبهة التحرير الذين كانوا ينهبون المال العام. وقال إن الشيخ الغزالي، كان عالما جليلا ولم يكن مسؤولا عن التطرف الديني في الجزائر. وخلص الرئيس الراحل في الأخير، إلى القول بأنه رفض إلغاء نتائج الانتخابات، وفضل الاستقالة لأنه كان يفترض تسليم مقاليد الحكم للفيس لأن الشعب انتخب الإسلاميين. *في البداية، أود أن أطرح عليك بعض الأسئلة حول سيرة حياتك الذاتية. هل صحيح أنك ولدت في قرية بوثلجة؟ -لا، لم أولد في قرية بوثلجة، بل في مكان بعيد عنها يقع بين بوثلجة وعنابة. تسمى القرية »بين المدينتين أو بين القريتين« بين عنابة (بونة سابقا) وبوثلجة. *وما الإسم الذي كان يطلق على تلك القرية في ذلك الوقت؟ -كانت تسمى "السبعة" ويعود اسم هذه القرية إلى السكان الأوائل الذين عاشوا فيها وكان عددهم سبعة إخوة، وتقع هذه القرية بين بوثلجة وعنابة، ومازالت تسمى بالسبعة إلى هذا اليوم. *أهي قرية صغيرة؟ -نعم، هي صغيرة ومازالت موجودة حتى الآن، ومازالت منازلها القديمة، منذ عهد الاستعمار، موجودة كما هي إلى يومنا هذا، نحن حافظنا عليها، لكن الفرنسيين دمروها عندما اندلعت ثورة التحرير. وقمنا ببنائها مرة أخرى في نفس المكان بعد الاستقلال. *وماذا عن عائلتك؟ هل صحيح أن والدك من عائلة كبيرة؟ -نعم، هو من عائلة كبيرة جدا وقديمة، ويرجع تاريخ عائلتي إلى عهد ما قبل الرومان يصل عدد الأسر التي تحمل اسم عائلة بن جديد إلى الآلاف. *وماذا كانت مهنة والدك؟ -كان والدي فلاحا. وكان يملك الكثير من الأراضي كان والدي وعائلة بن جديد من الأغنياء منذ زمن بعيد. *ومن أين كانت عائلة والدتك؟ -من نفس العائلة، بن جديد، ومن نفس القرية أيضا، وأمي بنت عم أبي، ذلك لأن العادات العربية والقبلية في ذلك الوقت كانت تحتم على أفراد القبيلة الزواج من بعضهم البعض، وبسبب تلك العادات والتقاليد هناك الكثير من الأمراض الناتجة عن الزواج بين الأقارب. *هل اسمك مرتبط أو له أية علاقة بالطريقة الشاذلية؟ -لا، لكن والدي سماني الشاذلي احتراما لشيخ الطريقة الشاذلية، أبي الحسن الشاذلي. *هل يعني ذلك أن إسمك لا علاقة له بعائلة شيخ الطريقة الشاذلية، الشاذلي؟ -نعم، هذا صحيح، اسمي ليس له أية علاقة بالشيخ الشاذلي. والدي سماني الشاذلي احتراما لشيخ الطريقة الشاذلية. هو مجرد اسم، لا أكثر ولا أقل. *هل كان والد زوجتك فلاحا؟ -زوجتي من غرب الجزائر، من مدينة وهران وأنا من شرق الجزائر. تعرفت عليها عندما كنت أخدم في الجيش كقائد ناحية عسكرية كبيرة في مدينة وهران. *هل تلقيت تعليمك في قرية "السبعة"؟ -بما أن والدي كان يمارس السياسة ضد الإستعمار الفرنسي منذ زمن طويل، لم يكن مستقرا في مكان واحد، ودراستي باللغة الفرنسية كانت تقريبا في أربع مناطق مختلفة، انتقلت من مدينة إلى أخرى بسبب عمل والدي الذي كان ينتقل من مكان إلى آخر. وبسبب سياسته ضد الإستعمار، نفاه الفرنسيون إلى عدة مناطق داخل الجزائر ومنعوه من السكن في مسقط رأسه. ولهذا السبب كنت مضطرا للدراسة في عدة أماكن ومدارس مختلفة بدلا من الدراسة في مدرسة واحدة. درست في عنابة، ومن عنابة انتقلت للدراسة في شيحاني، كانت تسمى بارال بالفرنسية، وبعدها درست في مدينة يسمونها بالفرنسية موندوڤي، وتسمى حاليا الدرعان. درست في ثلاث مدن باللغة الفرنسية، أما دراستي باللغة العربية، فكانت على يد شيخ قبيلتي في مدرسة قرآنية، درست في هذه المدرسة اللغة العربية وعلوم القرآن وغيرها من العلوم باللغة العربية. *ما هي الحركة السياسية التي كان ينتمي إليها والدك؟ -كان ينتمي إلى الحركة الوطنية الجزائرية. كان ينتمي إلى حزب سياسي يترأسه فرحات عباس. لقد كان والدي من أنصار حزب فرحات عباس. وكانت الطبقة الوسطى، الغنية نوعا ما، تنتمي إلى هذا الحزب في عهد الإستعمار الفرنسي. وكانت تسمى هذه الطبقة بالفرنسية ب La petite Bourgeoisie وكان أبي من هذه الطبقة. *في أي سنة انضم والدك إلى حزب فرحات عباس؟ -قبل اندلاع الثورة ونشاطه الحزبي امتد لسنوات طويلة قبل الحرب العالمية الثانية إلى ما بعد انتهائها بدأ نشاط الأحزاب السياسية تقريبا في بداية القرن العشرين واستمر إلى ما بعد اندلاع ثورة التحرير عام 1954 واندمجت جميع الأحزاب السياسية في جبهة التحرير بعد اندلاع ثورة التحرير. *هل كانت المدرسة القرآنية التي درست فيها اللغة العربية تابعة لجمعية العلماء؟ وما اسم تلك المدرسة؟ -نعم، كانت تابعة، بشكل ما، لجمعية العلماء كان يدرس في هذه المدرسة شخص ملم جدا باللغة العربية وكان يسمى الشيخ صالح. كنت أحترمه كثيرا وهو شيخ وطني قبل اندلاع الثورة، استشرته لمعرفة رأيه في اندلاع ثورة التحرير وقال لي أن الثورة هي الاتجاه الصحيح وشجعني. على الالتحاق بالجبل ضد الاستعمار الفرنسي. *وهل كانت هذه المدرسة في سبعة؟ -نعم، كانت في سبعة. *وهل تلقيت دراسة المرحلة ااإبتدائية في نفس المدرسة؟ -نعم *هل تلقيت تعليمك في مدرستين باللغة الفرنسية والعربية في نفس الوقت؟ -نعم، كنت أدرس اللغة العربية في أيام العطلة وفي الأيام الأخرى كنت أذهب إلى المدرسة الفرنسية. *أين كنت في الأول من نوفمبر 1954 عند بداية اندلاع ثورة التحرير؟ -طبعا كنت مناضلا ضد الإستعمار الفرنسي، قبل نوفمبر، كنت في الحركة الوطنية والتي منها انطلقت الثورة الجزائرية. كنت في ذلك الوقت في قرية سبعة. مع الحركة الوطنية قبل نوفمبر 1954. *وأين كنت قبل دخولك جبهة التحرير -كانت هناك أحزاب سياسية في عهد الإستعمار قبل أن تتشكل جبهة التحرير. وأبي كان يناضل في حزب فرحات عباس وبعد أن ازداد عدد الأحزاب انضممت إلى الحزب الوطني الذي كان ينادي بحرب مسلحة ضد الاستعمار على خلاف بعض الأحزاب الأخرى التي كانت تؤمن بالنضال السياسي فقط. *أين كنت موجودا عندما اندلعت الثورة في الأول من نوفمبر؟ -ذهبت إلى الجبل عند اندلاع الثورة. *هل كنت عضوا في جبهة التحرير الوطني في ولاية قسنطينة في عام 1955؟ -لا، لم أكن في قسنطينة هناك بعض الناس الذين يبسطون الأمور في كتاباتهم عن تاريخ الثورة الأمور ليست بهذه البساطة! عندما اندلعت الثورة، التحق كل مواطن بجبهة منظمة من دون وجود تنسيق بين هذه المنظمات. تم التنسيق بين جبهة التحرير والولايات بعد مؤتمر الصومام وحينها قسمت الجزائر إلى ولايات من الناحية العسكرية والسياسية. لكن في البداية، عندما أعلن عن اندلاع الثورة، اتجهت إلى الجبل جماعات كثيرة. اتجه الجميع إلى الجبل لكن في الحقيقة لم يكن هناك تنظيم واحد ممركز في مكان واحد. *هل صحيح أنك عند الثورة في عام 1955، كنت رئيس ولاية قسنطينة، الولاية الثانية؟ -لا، أنا كنت موجودا في منطقة تسمى »سوق أهراس« وهي لم تكن أبدا الولاية الثانية. تكونت جميع الولايات، كقسنطينة وباتنة والجزائر، بعد مؤتمر الصومام، وكان عدد أبرز الشخصيات القيادية في المؤتمر ستة، وهم الذين كونوا الحكومة المؤقتة وأشرفوا على التطورات فيما بعد البداية كانت في حمل السلاح والخروج على النظام الإداري الفرنسي وإعلان حرب شعبية كاملة ضبد الإستعمار الفرنسي. وبعد ذلك، بدأنا في تنظيم الجبهة شيئا فشيئا حتى تنظمت القيادة. أصبحت قيادة الثورة الجزائرية منظمة ومعروفة في مؤتمر الصومام في أوت عام 1956. أما البداية فكانت انطلاقة فردية من دون وجود اتصال مع الآخرين، لأن الإتصالات كانت صعبة. في الحقيقة، هناك بعض الدراسات التي تحاول أن تبسط الأحداث التي وقعت عند اندلاع الثورة. لكن عندما نتابع كيف توالت الأحداث بالتدريج منذ بداية الثورة والالتحاق بالجبال وكيفية العمل على إتمام التنسيق بين جميع الأطراف حتى تكوين القيادة والحكومة الموقتة، تبدو الأمور معقدة أكثر من المكتوب في بعض الدراسات المبسطة عن اندلاع الثورة. المهم في الأمر هو عملية الالتحاق بالجبل والتي كان الهدف منها الثورة على الإستعمار. وكل شخص غيور على وطنه إلتحق بالجبل وقاوم بالسلاح حتى الوصول شيئا فشيئا إلى تنظيم القيادة المسلحة. لقد استطعت الحصول على أسلحة قبل انطلاع الثورة حدثت ذلك في الحرب العالمية الثانية عندما كانت المعارك على أشدها بين الطائرات الألمانية (الهتلرية) وطائرات الحلفاء. حدثت هذه المعارك في قلب مدينة عنابة ويوما من الأيام، لاحظنا أن طائرة ألمانية قد تم إسقاطها في المنطقة التي كنا نعيش فيها، بالقرب من البحر، نجا الطياران من الحادث والتحقا بالباخرة الألمانية »ومارا« وقد تركا الطائرة بما حلمت من أسلحة وغادرا. استحوذنا على تلك الأسلحة وكان من بينها بندقية من نوع » Mauser موزار ألمان« ولكني لا أتذكر اسمها بالضبط، ثم خزنا الأسلحة التي حصلنا عليها، لأنه اعتقدنا أننا سوف نحتاج إليها يوما ما في المستقبل كان عمري تقريبا، في ذلك الوقت 15 عاما، وعند اندلاع الثورة، أخرجنا الأسلحة التي احتفظنا بها وعندما التحقت بالثورة، كنت أحمل بندقية ورشاش ألمانيين. *ما رأيك في جمعية العلماء؟ أنت درست في مدرسة قرآنية تابعة لجمعية العلماء؟ -لا، المدرسة لم تكن تابعة بشكل مباشر لجمعية العلماء. *هل كان شيخ المدرسة عضوا في جمعية العلماء؟ -لا، لم يكن عضوا في جمعية العلماء لكنه كان يدرسنا بعض التقاليد القديمة. أسست جمعية العلماء في قسنطينة وكان لها فروع كثيرة في مناطق أخرى من الجزائر. ولم ينتم جميع العلماء والمشايخ في ذلك الوقت إلى جمعية العلماء، ولكنهم كانوا على اتصال ببعضهم البعض، لم يجمع هؤلاء العلماء والمشايخ نظاما واحدا يربطهم ببعضهم البعض. ومعظم المدارس في ذلك الوقت كانت تشيد مبادرة فردية لا أكثر، يبدو أن هؤلاء المشايخ الذين كانوا من أتباع طرق دينية معينة قد أسسوا مدارس في المناطق التي كانوا يسكنون فيها. *وهل كان التعليم في المدرسة على الطريقة الصوفية؟ -لا، ليس على الطريقة الصوفية بل على ما يسمى بالطريقة الهبرية. هناك العديد والكثير من الطرق الدينية في الجزائر كالطريقة الهبرية والقادرية بالإضافة إلى طرق ومذاهب أخرى لكل مذهب طريقته، وأتباعه يدرسون التلاميذ المذهب والأفكار التي يؤمنون بها. *هل كان والدك من أتباع الطريقة الهبرية؟ -لا، كان عضوا في هذه المجموعة التي كانت تدرس في المدرسة على يد الشيخ، وكان حول هذا الشيخ مجموعة من الناس الكبار الذين يشكلون شبه جمعية لها دور اجتماعي وثقافي. فمثلا كانوا يرسلون الأساتذة لتدريس التلاميذ في أماكن مختلفة من الجزائر. *هل صحيح ما يقال عن الطرق الصوفية بأنها كانت تساعد الاستعمار، وأن جمعية العلماء هي التي غرست في الشعب الجزائري حب الوطن ودعمت الشخصية الجزائرية؟ -أنا شخصيا لا أستطيع أن أتهم هذه المذاهب بالتعاون مع الاستعمار أو مع الإدارة الفرنسية. القليل منهم من أتباع الزوايا الصوفية كانوا يعملون مع الإدارة الفرنسية لكن الآخرين من أتباع الطرق الصوفية كانوا وطنيين. ولكن الكثير من الباحثين ذكروا في دراساتهم أن أتباع الطرق الصوفية والزوايا كانوا يؤيدون الاستعمار الفرنسي، بينما جمعية العلماء وجبهة التحرير كانا ضد الإستعمار الفرنسي. في الحقيقة الطرق الصوفية أو القادرية وطرق ثانية أخرى لعبت دورا إيجابيا في تنمية الروح الوطنية وتشجيع الناس على مقاومة الإستعمار الفرنسي. والقليل القليل منهم كانوا يخدمون مصالح الإستعمار. لذلك أنا لا أستطيع اتهامهم جميعا بالتعامل مع الإستعمار. *وما رأيك في دور جمعية العلماء المسلمين في ذلك الوقت؟ -قاموا بدور أساسي وإيجابي بالتشجيع وإبراز الروح الوطنية. *لكن في ذلك الوقت كانت هناك بعض المشاكل بين جمعية العلماء وجبهة التحرير..!؟ -هذا صحيح، كان هناك خلاف حول توجه الثورة والتوجه المستقبلي للجزائر بعد الاستقلال كان توجه جمعية العماء دينيا، بينما كانت أفكار وتوجهات جبهة التحرير وزعماء الثورة تقدمية ومتفتحة وبعيدة عن الاتجاه الروحي أو الديني. كانت جمعية العلماء المسلمين تريد لمستقبل الجزائر المستقلة أن يأخذ منحى إسلاميا، لأن أعضاء الجمعية كانوا منغلقين ومتطرفين نوعا ما. وكانت قيادة جبهة التحرير ضد هذا التيار والاعتقاد والذين قاموا بثورة التحرير كانوا متفتحين و يؤمنون بالعدالة الاجتماعية لجمع الجزائريين دون استثناء، وكان هناك خلاف فيما يتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة في المجتمع والسياسة فبالنسبة إلى جمعية العلماء، كان دور المرأة محدودا وكانت تظرتهم لها تقليدية حيث يجب أن تبقى في المنزل. في النهاية، كانت هذه الخلافات الدينية والروحية، بين جمعية العلماء وجبهة التحرير بسيطة، لكنهما كانا متفقين وعلى طريق واحد فيما يتعلق باستقلال الجزائر. علاوة على ذلك، في نهاية الأمر انضمت جمعية العلماء المسلمين إلى جبهة التحرير من أجل استقلال الجزائر. *وماذا عن الدور الذي لعبه الشيخ محمد البشري الإبراهيمي في الثورة؟ -لقد كان للشيخ الإبراهيمي دور كبير في الثورة الجزائرية، في البداية كانت الأحزاب السياسية والدينية مترددة في الانضمام إلى جبهة التحرير، لكن عند اندلاع الثورة، في الأول نوفمبر، انضمت معظم الأحزاب السياسية، بما فيها جمعية العلماء المسلمين، إلى الخط الثوري (جبهة التحرير)، ولكن بعد انتهاء الثورة وتحقيق الاستقلال، بدأ قادة الأحزاب السياسية والدينية، الذين انضموا إلى الثورة، بالعودة إلى تقاليدهم القديمة وانتماءاتهم الحزبية، الأمر الذي خلق مشاكل ومتاعب وتناقضات في الجزائر بعد الإستقلال وتحديدا منذ عام 1962. *هل ظهرت هذه الخلافات بعد انتهاء الثورة فقط؟ -نعم، ظهرت هذه المشاكل بعد الاستقلال فقط. وذلك لأن الذين انضموا إلى جبهة التحرير التي قادت الثورة، عند الإعلان عن تصريح الأول نوفمبر، تخلوا عن انتماءاتهم الحزبية والمبادئ التي كانوا ينادون بها. ولكن بعد الاستقلال بدأ قادة الأحزاب السياسية والذين كانوا ينتمون إلى جبهة التحرير بالعودة إلى انتماءآتهم الحزبية قبل اندلاع الثورة. وهذا الوضع خلق تناقضات ومشاكل بعد الاستقلال مند عام 1962. *تولى الرئيس الشاذلي منصب الرئاسة في نفس العام الذي شهد قيام الثورة الإسلامية في إيران في 1979 في ذلك الوقت، أعطت الثورة الإيرانية الإسلامية كدين وثقافة زخما قويا بين صفوف الشعب الجزائري. ما هو الدور الذي لعبته الثورة الإيرانية في تعزيز الإسلام في الجزائر؟ -في الحقيقة كانت الجزائر في بداية الثورة منسجمة مع تقاليدها ومبادئها وأصلها. أعني في هذا، الانتماء الحضاري للجزائر إلى الأمة العربية والإسلامية بكل ما تمثله من حضارة وتاريخ بالإضافة إلى الإنتماء الروحي أيضا، وانطلقت الثورة على هذا الأساس من المبادئ بما فيها الانتماء الديني للإسلام. ولم تقم الثورة الإيرانية بأي دور يذكر في تطور الأحداث في الجزائر، بل بالعكس نحن ساعدنا الإيرانيين في مشاكلهم مع الأمريكان والشاه، وكما هو معروف ينتمي الإيرانيون إلى المذهب الشيعي ونحن في الجزائر وفي محيط المغرب العربي ننتمي إلى ما يسمى بالمذهب المالكي. وهناك فرق كبير بين المذهبين الشيعي والمالكي. *وماذا عن ازدياد عدد المساجد في السبعينات وأصدرت السلطات الجزائرية قانونا يمنع بيع الكحول للمسلمين في عام 1976؟ ألا توافقني الرأي بأن المجتمع الجزائري في ذلك الوقت قد انتقل من مجتمع علماني إلى مجتمع أكثر تدينا؟ -نعم هذا صحيح، ولكن هذا التحول كان تدريجيا. عندما استقلت الجزائر، اتخذنا الاتجاه الإشتراكي في عهد الرئيس أحمد بن بلة. ولكننا رفضنا هذا الاتجاه لأنه كان أقرب إلى الاتجاه الشيوعي. والشيوعية ليس لها أية علاقة أو ارتباط بالتقاليد والأعراف الجزائرية، بل هي عبارة عن شيء مستورد ليس له أية صلة بالجزائر وحياة الجزائريين. أثار وجود الشيوعيين في الجزائر ودورهم المؤثر داخل نظام الحكم الذي حاول تطبيق الإتجاه الإشتراكي، الأقرب منه إلى الشيوعية، بلبلة وفتح الباب للتطرف الديني. وأدى ذلك في نهاية الأمر إلى تنحية بن بلة من السلطة، لأن نظام حكمه فرض على الشعب الجزائري نمطا من التنمية والتوجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي أكثر ارتباطا بالأنظمة الشيوعية. وبسبب فشل النظام في تحقيق سياساته التنموية سمح للتيار الديني بالنشاط للتغلب على التيار الشيوعي في الجزائر. ولهذا السبب برز التيار الديني وازداد نشاطه في السبعينات من خلال بناء المساجد في ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى حزب واحد علني هو جبهة التحرير، وفي داخلها كان هناك أيضا العديد من الاتجاهات السياسية والدينية كالشيوعيين والإسلاميين وغيرهم، مثلت جبهة التحرير المظلة التي جمعت تحتها خليطا كبيرا من الاتجاهات المختلفة، واستمر هذا الخليط في النمو إلى الثمانينات. *ألم يكن هناك صراع بين الاتجاه الاشتراكي والإسلامي أثناء حرب التحرير؟ لا، لم تكن هذه التوجهات موجودة أثناء حرب التحرير، لأن شرط الالتحاق بجبهة التحرير كان التخلي عن الانتماءات الحزبية، لذلك سُمح فقط لهؤلاء الذين تخلوا عن انتماءاتهم السابقة بالانضمام لبرنامج جبهة التحرير وتصريح الأول من نوفمبر، ولم تسمح الجبهة لهؤلاء الذين رفضوا التخلي عن انتماءاتهم السابقة بالانضمام إلى صفوفها. إذا استطعنا التغلب على كل التيارات المتناقضة وأصبح التفكير واحدا أثناء ثورة التحرير، لكن بعد الاستقلال بدأ البعض، من داخل جبهة التحرير، بالعودة إلى انتماءاته السابقة كالإسلاميين والشيوعيين والاشتراكيين واللائكيين والتقدّميين وغيرهم. *هذا يعني أن جميع الاتجاهات السياسية والفكرية كان يجمعها قاسم مشترك واحد داخل جبهة التحرير وهو تحرير الجزائر؟ - نعم، هذا صحيح. *في شهر أكتوبر من سنة 1980 ضرب زلزال قوي مدينة الأصنام وكان للجمعيات الإسلامية دور كبير في مساعدة المنكوبين، ما تقييمك لدور هذه الجمعيات في ذلك الوقت؟ -بدأت هذه الجمعيات الإسلامية بالانتشار بين الناس بعد الدور الذي لعبته في مساعدة المنكوبين، لكن الدولة هي التي تكفلت بكل شيء وفي بناء المنازل المدمّرة، ودور هذه الجمعيات كان محدودا مقارنة بالدور الذي لعبته الدولة. *لكن الكثير من الباحثين قد أكدوا على أن الدور الذي لعبته الجمعيات الإسلامية في مساعدة الناس فاق بكثير دور الحكومة؟ -هذا ليس صحيحا. الحكومة هي التي تكفلت بكل شيء. لكن باب المساعدة أيضا كان مفتوحات لأي كان بما فيهم الشبكات الإسلامية والتي كان دورها محدودا، لأن إمكانياتها أقل من إمكانيات الدولة، لقد وفرت الحكومة مساعدات ضخمة جدا لمساعدة السكان بعد الزلزال. *هل الرئيس الشاذلي هو الذي قام بإحداث التغير في الجزائر من السياسة الاشتراكية إلى السياسة الرأسمالية؟ -نعم، هذا صحيح، أنا الذي غيرت النظام من الاشتراكية إلى الرأسمالية، لأني أدركت أن النظام الاشتراكي قد فشل. لا يوجد إنسان آخر مثلي عاش الثورة من بدايتها إلى بداية التسعينات، لقد كنت مسؤولا في القيادة حتى حققنا الاستقلال، ومارست السلطة من دون انقطاع في السلطة السياسية والعكسرية إلى عام 1992، هذا يعني أنني عشت كل مراحل تطور الثورة حتى الاستقلال، بينما كنت مسؤولا كبيرا في الجيش، نحن الذين أحضرنا بن بلة ووضعناه في الحكم، أنا شخصيا لم يسبق لي الالتحاق بالمدارس العسكرية أثناء الاحتلال الفرنسي ولا حتى بعد الاستقلال، لقد كنت مناضلا ومن خلال نضالي تدربت على الحياة الثورية وتحملت المسؤولية بلباس عسكري لا أكثر ولا أقل، لذلك فقد عشت مراحل الثورة من بدايتها حتى الاستقلال، ثم في عهد بن بلة، وبومدين من بعده، أنا كنت عضوا في مجلس الثورة الذي كان يمثل السلطة الأساسية حول رئيس الجمهورية في عهد بومدين. ومن خلال التجارب الطويلة التي خضتها من النظام الشيوعي في عهد بلة إلى النظام الاشتراكي في عهد بومدين، واللذان فشلا تماما، تكونت عندي فكرة كاملة وواضحة عن الأوضاع في الجزائر. *ما هي المشكلة الرئيسية للنظام الاشتراكي في الجزائر؟ -لم نستطع تحقيق ما كنا نطمح إليه في ظل النظام الاشتراكي، النظام الاشتراكي كفلسفة ومبادئ جميل جدا، ولكنه أثبت فشله عند التطبيق في الجزائر. فهمنا للاشتراكية وإيماننا بها كان من خلال مبدأ واحد فقط، وهو مبدأ العدالة الاجتماعية، ومازلنا حتى هذا اليوم نؤمن بالعدالة الاجتماعية في الجزائر، الفلسفة شيء والتطبيق شيء آخر، ونحن فشلنا في التطبيق، لذلك، كان الخيار الوحيد هو فتح الباب للشعب الجزائري ليختار ممثليه. هذا هو اتجاه المستقبل، لأن العالم أصبح صغيرا ونحن جزء من هذا العالم، وتطورنا مرتبط بهذا العالم. والجمود والتشبث بفلسفة معينة محكوم عليها بالفشل وأكبر مثال على كلامي هذا فشل الاتحاد السوفيتي ورجوعه إلى الواقع. أنا غيّرت النظام من خلال قناعتي الشخصية، لأني عشت جميع المراحل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للنظام الجزائري كمسؤول، وعلى هذا الأساس فقد تحملت المسؤولية بشكل كامل، وعندما أدركت أن النظام الاشتراكي في ذلك الوقت غير قادر على المضي قدما في تحقيق الإصلاحات المطلوبة، قررت تغييره. *من أين استوحيت فكرة تغيير النظام؟ -من خلال تجربتي في السلطة. أنا شخصيا الذي قررت تغيير النظام من خلال تغيير الدستور وحذف الميثاق، لأن النظام والدستور كانا مرتبطين ببعضهما البعض، لأنه من الناحية السياسية، يصعب على الهيأة التنفيذية التطبيق من دون المساس بصلاحيات الدستور، وذلك لأنه كان على الحكومة تطبيق ما ذكر في ميثاق جبهة التحرير، وهذا مستحيل, لأنه مع تغير الأوضاع في الجزائر كان على الهيأة التنفيذية / الحكومة / أن تتماشى مع تطور الأمور في البلاد. وهذا الجمود هو الذي دفعني لاتخاذ قراري في تغيير النظام. وقد أدركت أهمية تسليم الحكم للشعب الجزائري في إطار منظم وفي إطار الديمقراطية الحقيقية. وقد اختار الشعب الجزائري ممثليه في البرلمان بكل حرية. وأعطيت البرلمان صلاحيات واسعة، وهكذا فتح المجال أمام الهيأة التنفيذية لمراقبة الحكومة. وهذه الإصلاحات التي قمت بها مست بشكل مباشر مكاسب ومصالح بعض المسؤولين الذين استفادوا من مركزية القرار، ومن حكم الحزب والفرد الواحد، حتى أن جبهة التحرير كانت ضد الإصلاحات عندما طرحت الدستور الجديد الذي سمح للشعب الجزائري باختيار ممثليه من رئيس الجمهورية إلى رئيس البلدية بكل حرية عن طريق الانتخابات الحرة، أصبح الشعب الجزائري مسؤولا عن اختياره لمسؤوليه، وقل توجيه اللوم والنقد لشخص رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة بمعني آخر: آنا أردت أن أعطي حرية حقيقية للشعب الجزائري في اختيار ممثليه. وللأسف، هذه الإصلاحات التي قمت بها أدت إلى حوادث الخامس من أكتوبر، يدعي البعض أن حوادث الخامس من أكتوبر هي التي جاءت بالديمقراطية، لكن الحقيقة هي العكس تماما. عندما شعر المتضررون من الديمقراطية بأن الديمقراطية الحقيقية تسير بمسارها الصحيح وأصبح للشعب الجزائري صلاحيات كبيرة، أدركوا أنهم سيفقدون نفوذهم وتضيع مصالحهم. لقد خافوا على أنفسهم، لأنه عندما يصبح الشعب الجزائري حرا في اختيار ممثليه، سوف يختار الناس النزهاء فقط والذين يثق فيهم. عندما تكون الهيأة التنفيذية هي التي ترشح الناس فإن هذا يتناقض مع أبسط مبادئ الديمقراطية. لقد كنت على قناعة تامة، من خلال دراستي للحكم في الجزائر منذ الاستقلال أن التنظيم الاشتراكي والأسلوب المركزي في اتخاذ القرار وحكم الحزب الواحد لم يعد يجدي نفعا. والتاريخ يحكم عليّ في فشل أو نجاح الأمور، لأنني المسؤول الأول والأخير عن الإصلاحات. وحوادث الخامس من أكتوبر كانت نتيجة عدم قبول المسؤولين في السلطة والحزب للإصلاحات والتغييرات التي قمت بها، فحاولوا إجباري على التخلي عن الإصلاحات من خلال إخراج المظاهرات، لكني قلت لهم أنهم على خطأ، لأن مصلحة الشعب الجزائري تقتضي منا فتح باب الديمقراطية، وذلك من خلال فسح المجال له في اختيار ممثليه وتحمّل مسؤولية اختياره ومصيره، لذلك أنا أؤكد أن الإصلاحات بدأت قبل أحداث الخامس من أكتوبر، وأن هذه الأحداث كانت عبارة عن ضغط مورس علي لإجباري على التراجع عنها، ولكنني تمسكت بالإصلاحات، وطرحت الدستور الجديد للإستفتاء في عام 1989، وأخبرتني مصالح الأمن أن جبهة التحرير قد حرّضت الناس على التصويت ضد الدستور الجديد، لأنه كان سيفتح الباب للديمقراطية. ولكنني لم أكترث لما قاموا به على الرغم من أنني كنت مسؤولا في جبهة التحرير. كان هناك العديد من أفراد جبهة التحرير خائفين على مصالحهم لارتباطها بشكل كبير باستمرار حكم الحزب الواحد، لذلك قررت أن أطلب من الشعب الجزائري الحكم بيني وبين المعارضين على الإصلاحات من خلال وضع الدستور للاستفتاء الشعبي. ولضمان نزاهة الاستفتاء، أمرت مصالح الأمن بعدم تزوير نتائج الاستفتاء أو التدخل في عملية الاستفتاء. وقد قررت أن أمضي في الإصلاحات في حال صادق الشعب على الدستور أو الاستقالة من منصبي في حال رفضه. ولقد وضعت هذين الخيارين كشرط مسبق وجميع الشعب الجزائري على علم بهذا الأمر. وصوّت الشعب في الاستفتاء على الدستور بنسبة 85٪ (والصحيح هو 73.4)، وجهت نتيجة الاستفتاء هذه صفعة قوية للأحزاب وجبهة التحرير، لقد أدركت، من خلال نتيجة الاستفتاء والتأييد الشعبي له، أنني على الطريق الصحيح، كانت مصلحة الشعب، بالنسبة لي، أهم من مصلحة المسؤولين من حولي. ولو اتبعت أهواء هؤلاء المسؤولين، لوصلت الأمور في الجزائر إلى الهاوية. لقد أدركت من نتيجة الاستفتاء أن الشعب الجزائري يريد فتح الباب للديمقراطية الحقيقية لتحمّل المسؤولية ولاختيار ممثليه بكل حرية وديمقراطية من رئيس الجمهورية إلى رئيس البلدية، وهكذا يكون البرلمان مستقلا وله الحرية الكاملة في مراقبة الهيأة التنفيذية قبل الحكومة كما هو الحال في الدول الديمقراطية الحقيقية. البرلمان هو الممثل الرسمي للشعب ومن خلاله تتم مراقبة الهيأة التنفيذية ومحاسبتها. موقف جبهة التحرير المعارض لهذه التطورات والإصلاحات الديمقراطية دفعت الشعب الجزائري للتعاطف مع الاتجاه الإسلامي وهذا بدوره أعطى الفرصة للتطرف الإسلامي في النمو انتقاما من المسؤولين القائمين على جبهة التحرير، وليس بجبهة التحرير كرمز، ولهذا السبب فقد صوّت الشعب الجزائري للجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) في الانتخابات، وكانت النتيجة فوز الإسلاميين بها والتي كانت بمثابة نقمة على المسؤولين في جبهة التحرير لارتكابهم أخطاء منها نهب أموال الدولة، لأنهم كانوا خائفين على أنفسهم من المحاسبة والمساءلة الشعبية وطلبوا مني أن أعيد الاستفتاء، لكنني رفضت. *دعنا نعود، من فضلك، إلى الموضوع الأساسي، ذهبت أنا وطالبتي (شوكو وتانابي) إلى قسنطينة السنة الماضية وقمنا بزيارة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، ما هدف الحكومة الجزائرية من تأسيس هذه الجامعة في عام 1984؟ -في الحقيقة، لقد كانت هذه الجامعة عبارة عن مسجد قبل أن تصبح جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية. وبعد ذلك بدأت فكرة توسيع المسجد فتحوّل إلى معهد ومن ثم إلى جامعة. وقررنا تعليم الدين الإسلامي في هذه الجامعة وأحضرنا أساتذة على مستوى رفيع لتسيير أمورها. وكانت الجامعة الوحيدة في الجزائر التي تولت تعليم الدين الإسلامي، ونظرا لأهمية هذه الجامعة، أحضرت الأستاذ المصري الشيخ الغزالي من مصر ليدرّس في الجامعة، وعلى الرغم من أن الناس كانوا يتهمونه بالمسؤولية عن انتشار التطرف الإسلامي في الجزائر، إلا أنه كان رجلا معتدلا. لقد كان الأستاذ الغزالي إنسانا عالما ومحترما وله سمعة طيبة بين المصريين والعرب جميعا، وقد تكفل بإدارة الجامعة. لم يبرز التطرف من هذه الجامعة، بل كان مصدره أطراف وتنظيمات أخرى خارجية. كان أساتذة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية من المعتدلين وقد ساهموا أيضا في تخريج أساتذة معتدلين. حتى أنه عندما أعلن العصيان المدني في الجزائر، شارك فيه عدد قليل جدا من طلاب هذه الجامعة. برز التطرف الإسلامي في الجزائر من عناصر ومذاهب وأفكار لا تتماشى مع الإسلام الحقيقي. جميعها جاءت من خارج الجزائر وعانت من هذه المشكلة، ليس فقط الجزائر، بل جميع البلاد العربية حتى يومنا هذا، والإسلام بريء تماما من هذه التنظيمات المتطرفة. *ما هي الأسباب وراء أحداث الخامس من أكتوبر 1988؟ -كانت أسباب أحداث أكتوبر الإصلاحات التي قمت بها. كان هناك العديد من المسؤولين في جبهة جبهة التحرير وآخرين أيضا ضد الديمقراطية التي حاولت تطبيقها وذلك لأن الديمقراطية وحرية الصحافة وفسح المجال للشعب في اختيار ممثليه بحرية ستكشف عيوب المسؤولين وستحرمهم من المكاسب التي كانوا يحصلون عليها من خلال الحكم بالقواعد القديمة، زمن حكم الحزب والفرد الواحد. باختصار، شكلت عملية الإصلاح تهديدا لنفوذ الكثيرين من أعضاء جهاز جبهة التحرير وغيرهم. ولهذا السبب، فقد قاموا بالتحريض على تلك المظاهرات وأحداث العنف لإجباري على العدول عن مشروع الإصلاح والتخلي عن التوجه الديمقراطي. أما القول بأن الديمقراطية هي التي جاءت بأحداث الخامس من أكتوبر فهذا غير صحيح. والحقيقة أن العكس هو الصحيح: الإصلاحات الاقتصادية والسياسية هي التي جاءت بهذه الأحداث من قبل المتضررين منها لإجباري على التراجع عن مشروع الإصلاح الديمقراطي. *هل كان وراء هذه الأحداث منظمة معينة؟ -لا، كانت من عناصر من جبهة التحرير، وهم الذين شجعوا على هذه الأحداث. *هل تعني أن هذه الأحداث والمظاهرات لم تكن منظمة؟ -لا، لم تكن هناك منظمة واحدة مسؤولة عن تنظيم الأحداث، وقد اغتنم الإسلاميون هذه الأحداث للبروز على الساحة السياسية وكسب التأييد الشعبي بعد أن أعطاهم الشعب الجزائري ثقته انتقاما من تصرفات جبهة التحرير. *لماذا استطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) تحقيق نتائج كبيرة في انتخابات 1990؟ -أعطت الديمقراطية للشعب الجزائري اختيار الإسلاميين بكل حرية، تماما كما حدث في فلسطين عندما انتخب الشعب الفلسطيني الإسلاميين من حركة حماس. كان اختيار الفلسطينيين للإسلاميين عقابا وردا على التصرفات والأخطاء التي ارتكبتها حركة فتح بحق الفلسطينيين ونهب أعضائها للمال العام. وهذا بالضبط ما حدث في الجزائر عندما انتقم الشعب من تصرفات المسؤولين في جبهة التحرير الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حق الشعب الجزائر ونهبوا أمواله، هذه هي الحقيقة. *كما هو معروف، لم تقبل الحكومة الجزائرية بنتائج الانتخابات 1991 وحظرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS)، وكانت النتيجة مأساوية، وراح ضحيتها أكثر من مائة ألف قتيل في ذلك الوقت. هل تعتقد أنه لو قبلت الحكومة نتائج الانتخابات وتنظيم FIS في الحكم، لجنّبت البلاد كل تلك الأحداث التي تبعتها؟ -طبعا، كان يتوجب أن تعالج المشاكل التي انعدلت بعد الانتخابات في إطار البرلمان. وبصراحة أنا لا أتهم كل جبهة التحرير، ذلك، لأن البعض في جبهة التحرير قبلوا نتائج الانتخابات وفضلوا أن تقوم FIS في تعيين حكومتها، ومن ثم نقوم بنقل الصراع سياسيا إلى داخل البرلمان من خلال طرح وجهات النظر المختلفة. كان المفروض أن لا تصل الأمور إلى تلك الأزمة الخطيرة والتي مازلنا نعاني منها حتى الآن، أنا كنت مع الإطار الديمقراطي، وبما أن الشعب اختار الطرف الآخر (الإسلاميين)، كان يتوجب علينا تسليمهم الحكومة والسماح لهم بالإمساك بزمام الأمور في الجزائر، لكن أعضاء جبهة التحرير خافوا على أنفسهم وطلبوا مني حذف نتيجة الانتخابات وإعادتها من جديد، لكني رفضت طلبهم احتراما مني للدستور وتنفيذا للوعد الذي قطعته على نفسي عندما حلفت على القرآن باحترام إرادة الشعب الجزائري. لذلك لم أطلب من الشعب الجزائري أن يعيد النظر في اختياره للإسلاميين. وماذا كان سيقول الرأي العام الجزائري والدولي عني لو أنني قمت بحذف الانتخابات؟ لكانوا قد ظنوا أن الإصلاحات التي قام بها الشاذلي كانت عبارة عن مناورة للبقاء في السلطة. ولهذا السبب قررت ترك الحكم وقدمت استقالتي احتراما لخيار الشعب الجزائري. ومخطئ من يدعي أنه كان انقلابا، لأني قمت بالاستقالة بمحض إرادتي دون أي ضغوط من قبل أية جهة كانت. *كان على الحكومة الجزائرية القبول بحكومة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أليس ذلك صحيحا؟ - نعم، هذا صحيح. لو أن الحكومة قبلت بنتائج الانتخابات، لما كنا قد وصلنا إلى ذلك الوضع الخطير. لقد أردت من الشعب الجزائري أن يتحمل مسؤولية اختياره لممثليه بكل حرية ومن خلالهم تشكيل الحكومة. كان يجب علينا احترام خيار الشعب الجزائري ومنح الفرصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) في تشكيل الحكومة. كان ينبغي الحكم على FIS من خلال القوانين والإجراءات الدستورية التي تحكم الحكومة، والخروج عن إرادة الشعب وخياره في الانتخابات كان خطأ كبير جدا.