بعد مرور أحد عشر عامًا على عدوان الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قُتل السفير الأميركي في ليبيا «المحرّرة» من الاستبداد في هجوم نُسب إلى الحركة السّلفيّة الجهاديّة مستهدفًا قنصلية الولاياتالمتحدة في بنغازي، وهي مدينة تُعدّ رمز المصالحة ما بين البلدان الغربية والمجتمع المدني في العالم العربي. ففي التاسع عشر من آذار/مارس 2011، وأوقفت غارات الطائرات الحربية الفرنسية رتلاً من مدرّعات القذافي الزّاحفة نحو المدينة الثائرة، وحالت دون وقوع مجزرة، الأمر الذي ساعد على انتصار الثورة الليبية، وإجراء أوّل انتخابات ديموقراطية. هل يعني ظهورُ شبح الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في روزنامة الثورات العربية انقضاءَ «الربيع العربي»؟ هل كان هذا الربيع مجرّد وهمٍ ما لبث أن تبدّد إثر عودة الحركات الجهادية و«الحرب على الإرهاب»؟ هل ستنجح مساعي إرساء الديموقراطية في العالم العربي أم ستُجهض؟ قبل بضعة أيام على مقتل السفير الأميركي في ليبيا، وتخريب السفارة الأميركية في تونس، وهما عملان سهّلت القوى الأمنية ارتكابهما نظرًا إلى وقوفها مكتوفة الأيدي، كنتُ في سيدي بو زيد، البلدة التي أضرم فيها بو عزيزي النار في نفسه يوم السابع عشر من أيلول/سبتمبر 2010، مطلقًا بذلك شرارة الثورة التي ألهبت العالم العربي وأطاحت بكلٍّ من بن علي، ومبارك، والقذافي. غداة إحراق هذا البائع نفسه، مجسّدًا بعملٍ ينمّ عن يأسٍ عميق، إحباطَ شبيبة عاطلة عن العمل وغارقة في بؤس ناجم عن تبعات الديكتاتورية والفساد والعولمة مجتمعةً، تولّى تعبئةَ الجماهير النّقابيّون اليساريّون ومسؤولو جمعيّات الدفاع عن حقوق «حملة الشهادات العاطلين عن العمل»، من اشتراكيّين ويساريّين وعلمانيّين. وسرعان ما نال الحراك تأييد الطبقة الوسطى في العاصمة التّونسيّة، ما ألهب الوجدان الشعبي، فانعكس مشاركة ضخمة في المظاهرات الحاشدة التي أطاحت بن علي يومَ الرابع عشر من كانون الثاني/يناير. أفضت انتخابات الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر إلى فوز حزب «النهضة» الإسلامي البورجوازي بغالبية مقاعد البرلمان. ولم يشارك قادة هذا الحزب في الأيام الأولى للثورة لأنهم كانوا معتقلين أو منفيّين، بيد أنّهم اكتسبوا شرعيّتهم من قمع نظام بن علي لهم. وشكّل حزب «النهضة» وحزبان يساريّان وسطيّان حكومةَ ائتلاف هي «الترويكا» الحاكمة في تونس راهنًا في خضمّ صعوبات جمّة أخطرها التدهور الاجتماعي والاقتصادي المتزامن مع هبوط الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وزيادة معدّل البطالة، وترنّح هيبة الدّولة. لمستُ في سيدي بو زيد، بعد مرور عام ونصف على إضرام بو عزيزي النار في نفسه، ازدهارَ حرية التعبير، غير أنّ الوضع الاجتماعيّ من سيّئ إلى أسوأ. إذ يتعرّض النّقابيّون والنّاشطون اليساريّون للتّهميش، وينظر النّاس إلى حزب «النّهضة» على أنّه تجسيد جديد لدولة لا تمتّ إلى الشعب بصلة وتفتقر إلى الفاعليّة. أمّا القوة الأنشط على الأرض، والتي تستقطب الشبيبة العاطلة عن العمل، وتسكرها بشعارات تعد ب«تغيير الحياة» من خلال فرض الشريعة وطرد «الكافرين والجاحدين» من الحكم، فهو تنظيم «أنصار الشريعة» السّلفي. فقد استولى السّلفيّون الملتحون على المسجد الكبير في ساحة بو عزيزي، ويتحكّمون بالعظة فيه، ناهيك عن أنّ إمام المسجد حرّض في السابع من أيلول/سبتمبر، المسلمين على ما سمّاه «خرافات» الأولياء الصالحين الذين يفجّر السلفيون قبورهم لتأكيد قبضتهم على الإسلام. شرح هذا الإمام في مقابلة أجريتها معه لاحقًا أنّ الديموقراطية تعدٍّ على سيادة الله عبر تنصيب بشرٍ في موقع المشترعين. فهو يعتبر مناصري الديموقراطية كافرين، بمن فيهم زعماء حزب «النهضة». وعلّقت «يافطة» كبيرة عليها صور دامية عن ضحايا القمع في سوريا تحث المسلمين على التبرّع بالمال. وفي سوق السبت، يتولّى السلفيون الحفاظ على النظام، ويطردون السارقين في غياب الشرطة، ويحملون اليافطة ذاتها في التقاطع الرئيس، بينما تنهال أموال التبرعات في وعاء بلاستيكي. وبجوار التقاطع، لا يحظى مقام سيدي بوزيد، «القطب» الصالح الذي سُمّيت البلدة تيمّنًا به، إلاّ بتبرعات زهيدة من بضع نساء يلتمسن شفاعته. قيل لي إنّ السلفيين في المستشفى المحلي يحرصون على نيل المرضى عناية متكافئة، ويمنعون «البقشيش»، إلاّ أنّهم يفصلون بين النساء والرجال. قبل يومين على قدومي البلدة، خرّب السّلفيون آخر محلّ يبيع الجعة، ورأيت مئات القوارير المحطّمة مكدّسة في سلال المهملات. وفي صباح التاسع من الجاري، التقيت أمام الجامع ب«أبو عياض»، وهو جهادي سابق في أفغانستان وزعيم «أنصار الشريعة». بدأت المقابلة على ما يرام، غير أنّها سرعان ما توتّرت بعد أن تدخّل أحد حرّاسه الشخصيّين الذي أمسك بي محذّرًا زعيمه من السّمّ الذي يخفيه هذا المستشرق الكافر خلف كلامه باللغة العربية الفصحى. تسعى قوات الأمن التونسية راهنًا إلى القبض على «أبو عياض» بتهمة التحريض على تخريب السفارة الأميركية من خلال صفحة «أنصار الشريعة» على موقع «فايسبوك». وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المنظمة تحمل الاسم نفسه كالمجموعة السلفية الجهادية التي تشتبه السلطات الليبية بمسؤوليتها في الاعتداء على القنصلية الأميركية في بنغازي. مع ذلك، لم يربح السلفيون المعركة بعد. ففي سيدي بوزيد، تجول غالبية النساء الطرقات بدون حجاب بكلّ حرية. وفي أوساط حزب «النهضة»، تثير السلفية الجهادية تناقضات متزايدة: فبينما يرى قادته التقدّميّون أنّ ممارساتها العنيفة تطرح أكبر تهديد على «النهضة» والدولة التونسية، يتفهّمها الأكثر تشدّدًا والمقرّبون من السلفيّين على خلفية أحداث الحادي عشر من الجاري بسبب الإهانة التي تعرّض لها المسلمون في الفيلم المسيء للإسلام الذي أنتجه رجل قبطي من كاليفورنيا. في ليبيا كما في مصر، يؤدي فقدان الأوهام والأمل في صفوف شريحة كبيرة من الشباب الفقراء بعد أكثر من عام على اندلاع ثورةٍ يرون أنّها خانت مبادئها ونكثت بوعودها، إلى الالتحاق بصفوف الحركات الإسلامية المتطرفة التي تنادي بانشقاق ثقافي عن كلّ القيم السارية في مجتمع قائم على الجور وازدراء الدين. هذا هو إذًا تحدّي الديموقراطيات العربية اليافعة: إمّا أن تضع القوى الحاكمة الجديدة، ومن ضمنها «الأخوان المسلمون» بعد بلوغ سدة الحكم بالاقتراع العام، المسألة الاجتماعية في صلب أولوياتها، أو أن يجتاح المدّ السلفي الثورات كافة عبر تسخير إحباط الشباب الفقراء في ضواحي المدن والأرياف لصالحه. فكما أحرق بو عزيزي نفسه، وكما يحرق الهاربون من البؤس أوراقهم قبل التوجه بطريقة غير شرعية إلى لامبيدوزا أو أوروبا، ستعود نيران الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، مثلما عادت إلى بنغازي، لتحوّل الثورات العربية إلى رماد.