في مناسبة الألعاب الأولمبية يجوز اقتفاء أثر العدائين الأبطال وهم يسابقون الريح لحيازة الألقاب، مثلهم تبدو الديموقراطيات الناشئة في مصر وتونس والمغرب أقرب إلى انطلاقة لا تعود إلى الوراء. وكما الرياضة سباق تحد لإبراز القدرات الخارقة، فالمنافسات الديموقراطية سباق أفكار وبرامج وتطلعات، تفضي بدورها إلى منتصر ومنهزم. ولم يثبت أن من يتردد أو يسهو أو يغفل التزام قواعد اللعبة يستطيع المضي قدماً إلى أبعد الأشواط. إلى الآن يشكل الارتباك قاسماً مشتركاً بين بعض هذه التجارب، إما بدافع تبديد المخاوف إزاء استخدام السلطة الديموقراطية في ما وضعت له أصلا، وإما نتيجة دهشة انتقال المواقع من رصيف المعارضة إلى هرمية القرار، وإما لغاية التلويح بحسن النية وعدم الانجذاب إلى تغييرات جذرية تجلب متاعب الداخل والخارج. في الأمثلة الدالة أن رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بن كيران الذي يقود حزباً إسلامياً أعلن رفضه سياسة تعقب ومطاردة الساحرات، وكان يعني بذلك طي صفحة الماضي بما حفل به من مظاهر فساد كان جزءاً من سياسة عامة. قناعته في ذلك ترسيخ الثقة وتجنب هروب الاستثمارات ومعاودة تطبيع العلاقة مع الرأسمال المحلي وفق شروط الشفافية والنزاهة. في مصر جاء تشكيل أول حكومة في جمهورية الرئيس محمد مرسي على مقاس مخضرم بين التكنوقراط والسياسيين في ظل غلبة الهاجس الاقتصادي ومحاولة تجاوز حساسيات المرحلة. كي لا يبدو استئثار «الحرية والعدالة» بالسلطة وكأنه انقلاب على تعهدات ووعود. وفي تونس أدى استغراق الرئيس منصف المرزوقي في اللحظة، إلى إبدائه مخاوف من أن الوضع الراهن يمكن أن يمهد لثورة قادمة، في إشارة إلى مأزق الترويكا، الذي زادت من حدّته الأزمةُ الاقتصادية وغياب الاستقرار. فيما فهم الاتجاه نحو إقرار المصالحة مع ضحايا العهد البائد عن طريق جبر الضرر أنه هدية لنشطاء «النهضة» الإسلامية أكثر من غيرهم، ما يفيد بفقدان علاقات الثقة. تلافي سياسة الاستفزاز لا يزال مطلوباً. مبعث ذلك أن فكرة السطو على «غنائم» الربيع العربي تراوح مكانها، بين من يرى أن الفاكهة سقطت في غير تربتها ومن يعتقد أن جني ثمارها من قبل تيارات إسلامية لا يزيد عن الإفادة من قواعدهم التنظيمية، وبين من يراهن على معاودة إحياء تكتلات يسارية وليبرالية لتخيف التوازن. غير أن التيارات الإسلامية التي أحكمت طوقها على المشهد السياسي ليست بعيدة من إدراك واستقراء هذه المعادلات. وقد تكون لا ترغب في المغامرة بالاستئثار بالسلطة بسبب ذلك. كما كان غضب الشارع في بلدان عربية عدة غير متوقع، فإن اعتلاء الإسلاميين الواجهة لم يكن بقياس التكهنات التي غاب عنها الحدس السياسي. غير أن أكثر الأحداث تأثيراً في مسار الدول والمجتمعات يكون بطعم المفاجأة أو بتقدير أقل. وما يستشف من خطاب الإسلاميين في مواقع السلطة، أنهم لا يرغبون في إغضاب الجميع، بل ينهجون سياسة الخطوة خطوة لفك الاشتباك. إن أفلحوا فهم أجدى بثمار النجاح، وإن أخفقوا فلن يتحملوا المسؤولية وحدهم. يوم أجهضت تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر ارتفعت أصوات عابت على البلد أنه لم يترك الفرصة أمام الإسلاميين لتجريب حظهم في تداول السلطة. حدث ذلك في زمن آخر. أما الآن فقد أصبح الطريق معبداً أمام تيارات إسلامية عدة. وربما كان الفارق أن الخوف من الإخفاق يصار إلى تصريفه إلى أفعال من قبيل ضرورات التعايش وعدم الاستئثار بكل السلطة. ولا ضير في أن تكون البداية مزيجاً من التنازلات المتبادلة. ليس لأن الإسلاميين يطرقون أبواب الحكم للمرة الأولى، فقد جربوا مذاقه ومرارته في السلطة الفلسطينية والسودان، ولكن لأن سمات المرحلة مختلفة عما سبقها من تجارب وتقتضي قدراً أكبر من الانضباط لأحكام الديموقراطية. التمرس وحده يقود إلى اختيار الإرادات. وغداً، حين يكتمل صرح البناء الديموقراطي، لن يضطر أي حزب أو تكتل للتنازل عن شرعية القرار، كما لن يذعن أي فصيل معارض لغير شروط المعارضة الشرسة. وإذ نتأمل الصورة جيداً، فما من حزب في الديموقراطيات العريقة لا يتحمل مسؤوليات كاملة، من منطلق أنه سيحاسب على تدبيره في نهاية ولايته. الاشتراكيون الفرنسيون لا يستعينون باليمين. واليمين الإسباني لا يغازل الاشتراكيين المندحرين. وكذلك هو حال الديموقراطيين والجمهوريين في بلاد العم سام. لكننا في بداية الطريق.