أشفق كثيرا على الزوجات اللائي رمى بهن القدر في حضن أزواج عشاق لكرة القدم، فهاته الكرة الساحرة، تغدو في ساحة الملاعب، أشبه ب "الضرة" اللعوب المغرية المثيرة، "الأنثى" المدللة وكل العيون بدون استثناء، مترقبة زائغة متلهفة مترصدة لتعنتها وتمنعها ومراوغاتها، فأمام هذه القطعة المطاطية المكورة والمنفوخة المسماة "كرة"، يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، سواء كان مثقفا، أو جاهلا، أو فنانا، أو غنيا، أو فقيرا، أو رئيس دولة، ويشتركون في الأحاسيس والانفعالات، من هوس، وجنون، ولهفة يمكن أن تلاحق لعبة جميلة أو هجمة خطيرة، وتعابير وجه، سواء كانت ممتقعة أو منشرحة، وحركات، سواء كانت بقضم الأظافر أو التصفيق أو الإمساك بالرأس، وتعليقات، سواء كانت مصفرة أو مهلله أو مولولة. كما يقول الكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو: " فساقا بريجيت باردو هما أقلّ تأثيراً عليه من ساقي بيليه اللّتيْن أعطتا للكرة اعتبارها منذ أربعين عام". في المونديال مثلا، أفواج هامة تزور الملعب، بلهفة وأمل، وبحجم امتداد العشب، فقط لسواد عيون "كرة القدم"، "معبودة الجماهير"، كما ينعتونها، المدللة، التي قد تطاوعك، وقد تستفزك، وتعاند، وتحتج على غياب المرونة والرقة، فتغير رأيها وترفض الانصياع لإغراء شباك المرمى، ليعيش المتفرج حميمة القرية الكونية التي يتشدقون بها في كل المحافل الدولية، وينتشي بديمقراطية وحرية اختياره ويتحمل مسؤولية اختياراته، وسط تحكيم صارم وعادل نفتقده في حياتها اليومية، تحكيم لا يسمح في غالب الأحيان بانبجاس الأوراق الحمراء والصفراء ظلما وجزافا وبهتانا، اللهم بعض الاستثناءات القليلة جدا، فعلاقة المتفرج بهذا العالم الكروي لا تنحصر فقط في استهلاك ما ينتجه الآخر من سلع وخدمات وأفكار وحالات وجودية، بل يلبس القميص الذي يهواه، يختار اللاعب الذي يريده أن يتربع على عرش قلبه، ويلطخ سحنته بالأصباغ التي يعشقها، وفي عراء الملاعب يصرخ ملء أنفاسه في حالة من الهوس والجنون والترقب والشغف، لا خوف عليه من آذان الملاعب ولا من عيون الرقابة، فكل هذا التهليل والتصفير والولولة لن تخترق أسوار السلطة ولا دهاليزها، يعيش في اليوم الواحد بهويات متعددة،, فينتصر للفريق البرازيلي تارة، وللفريق الفرنسي تارة أخرى وللفريق الاسباني، لكن في الغالب ينتصر للفريق الأرجنتيني وهكذا دواليك في جو من التشجيع والحماسة، لاشيء يشوش على اختياره اللهم الوعي الجمالي والفني الذي يحكمه والمتعة التي ينشدها من نجوم تصنعها مؤسسات مالية ضخمة خلقت من هذا اللاعب "كائنا إعلاميا" ونجما رياضيا مثيرا يتم "تأليهه" و"أسطرته" باقتنائه من طرف النوادي بمبالغ هلامية، حيث يتم استثمار رساميل ضخمة من مؤسسات مالية كبرى تجازف بثرواتها لكنها تعول على استعادتها بالإعلانات الإشهارية. فكرة القدم بكل تعنتها ومراوغاتها، تعد متنفسا اجتماعيا ونفسيا، ووسيلة لتفريغ الشحنات الانفعالية، تستلزم الكثير من الإبداعية والتجديد والدربة والممارسة والإتقان، يقول الباحث المغربي سعيد بنكراد في معرض حديثه عن كرة القدم: "ليست سوى محاولة عصرية لتصريف مجموعة من الانفعالات المتنوعة، بعضها آني شخصي، وبعضها اجتماعي يعكس حالة إحساس جمعي، وبعضها الآخر مغرق في القدم، قد يكون صورا نمطية أو إرثا نفسيا مخبأ في الدهاليز المظلمة للاشعور". أما الشاعر والمخرج الإيطالي بازوليني، فيرى أن كرة القدم "لغة" تزخر بمجموعة من الرموز التي يمكن فهمها والتعامل معها. مثلما للكتاب "لغة"، يتوسل بها الكاتب كي يمرر مجموعة من الأفكار والأحاسيس للقارئ، لغة علمية كانت أو شعرية أو فكرية...فمن المفروض على كلتا اللغتين أن ترتقيا إلى مستوى اللغة كونية، الإنسانية، في تعاليهما على كل الاثنيات والطائفية والحسابات الضيقة، لتصيرا رديفا للهويات المتعددة، مع العلم أن فرنسا التي تضع اليوم الجدال حول "الهوية الوطنية الفرنسية" على صفيح من جمر، نسيت أو تناست أن الذي رفع العلم الفرنسي ليس هويتها المتزمتة، المنغلقة حد العنصرية، لكن ذلك الفسيفساء من الهويات التي طغت على الألوان الثلاثة، وإن كان هناك من أفرغهما، أي الكتاب وكرة القدم، من هذه الهوية المنفتحة، ليأسرهما في كهف من التعصب والحقد والضغينة والإيديولوجية، لتنفجر العصبيات والنعرات العنصرية والدينية والمشاعر القومية والحساسيات وحالات التوتر والعدوانية والهيجان والاستثارة، فتاريخ الألعاب الأولمبية منذ ميلادها عند الإغريق والرومان يشهد أن الرياضة هي "فرجة حربية" بإستراتيجية حربية وتكتيك وخطط وهجوم لدحر العدو و"عنف رمزي" لم تهذبه الحضارة لكن يتم تهذيبه أحيانا بما يسمى "الروح الرياضية". ولعل ذكريات كروية تاريخية تنسرب من بين شقوق الزمن بين الفينة والأخرى، كي تلطف ولو نسبيا من حدة خيباتنا الرياضية المغربية، لتعود بنا إلى الأجواء الكروية لكأس العالم في المكسيك ،1986حيث نشر عنوان مثير في جريدة مغربية بعد انتصار المغرب على البرتغال "من وادي المخازن إلى كوادالخارا "إشارة إلى معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة التي قامت في شمال المغرب، في 4 أغسطس 1578م، حيث انتصر المغرب على البرتغال بقيادة الملك سباستيان،وهو إشارة واضحة أن مباراة كرة القدم هي معركة حقيقية بإستراتيجية وأبطال وشهداء وضحايا وبهزائم وانتصارات وخيبات أيضا..