كن يتدفقن كهدير جبار في ساحة الثورات العربية، تخترق صرخاتهن المدى، يتقدمن الصفوف الأمامية، يؤمنّ بحتمية المضي إلى الأمام، يدركن أنهن بنات شرعيات لهذه اللحظة التاريخية التي يخضن فيها، يكتبن المدونات، ويغطين الثورات كصحافيات، ويشرق وعيهن ونضجهن كربات للبيوت، ويقاومن كشابات يافعات ثائرات، كن يأملن نهاية للحاكم الديكتاتوري ونطفة جديدة لبدايات حقيقية يحيونها إلى جانب رفيقهن الرجل. في ساحات الثورات، لا أحد كان يقمع أو يلجم صوتهن أو صراخهن، كان الرجل يؤمن إيمانا راسخا، بأن صرخات وشعارات الرجل لوحده غير كافية لاجتثات كرسي حكم ظل لسنوات جاثما على صدورهم، تقاسمن والرجل التعذيب والاعتقال والانتهاك والموت، ترملن وثكلن وتيتمن، تقاسمن معه هذه اللحظة التاريخية بكل آلامها وآمالها. أسقطن الحاكم لكن أدركن أنهن لم يسقطن بعد عقلية متشددة تقليدية ظلت لزمن طويل في جحرها، تطل بين الفينة والأخرى من كهفها الظلامي كي تقزم دورهن، وتعلن فتاوى مناهضة لكل حقوقهن باسم الدين، والدين براء منها. لم يتبق لهن بعد هذا الربيع العربي، سوى حشرجات مجروحة في حلوقهن وعيون ذابلة كحلها القلق والألم، وعوض أن يطمحن للمزيد، أصبحن يقاومن من أجل ما يحملن في جعبتهن من حقوق ويعضضن عليها بالنواجذ، للأسف، فبهجة واخضرار الربيع العربي لم يتقاسمه النساء والرجال مناصفة. ففي مصر، وُضعن في آخر اللوائح الانتخابية وضعفت تمثيليتهن بشكل مشين ومخجل في البرلمان المصري، قاومن كل معارضة ل«قوانين سوزانية» كما تم تسمية قوانين الأحوال الشخصية، وصرخن حين خلت لجنة صياغة الدستور الجديد من المرأة، قذفن بالحجارة يوم 8 مارس (آذار)، وطلب منهن العودة إلى بيوتهن، تم اعتقالهن وتعرضن ل«اختبارات فحوص العذرية». في ليبيا، وفي أول خطاب لرئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي، بعد سقوط نظام الديكتاتور، ألغى القيود المفروضة على تعدد الزوجات كخطوة أولى لوضع قطيعة مع نظام القذافي، ناسيا أو متناسيا أنه قبل التفكير في تعدد الزوجات يجب أولا التفكير في إعادة بناء ليبيا، التي تجر الآن إرثا منذورا للخراب والهشاشة، يجعل أمر التفكير في تعدد الزوجات سابقا لأوانه، خطاب كان رجة لنا، زاده غياب المرأة عن منصة الاحتفال قلقا وتشويشا، وهي لطالما أثبتت حضورها الكثيف والمؤثر في كل الثورات العربية. في تونس، كانت المرأة هي البدء وهي أصل الثورات، لولا صفعة تلك الشرطية المدوية على وجه البوعزيزي، لما انقدح زناد هذه الثورات، ماذا لو كانت فقط صفعة ذكورية، هل كان البوعزيزي سيشعل جسده المنهك واليائس؟ على العموم، فالمرأة التونسية أوفر حظا من نظيرتيها الليبية والمصرية، فظلت قلقة ومتخوفة على «مكاسب بورقيبية»، وعلى نهج ليبرالي نعمت بريشه طيلة سنوات مضت، لكنها تنفست الصعداء بعد عدول الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية، التي تقود الحكومة في تونس، عن قرار تنظيم استفتاء مراجعة مدونة الأحوال الشخصية لمخالفتها لتعاليم الشريعة، وخاصة في منعها تعدد الزوجات وإقرارها للتبني وغيرها، وكانت التمثيلية النسائية في البرلمان التونسي 42 من أصل 49 امرأة، ممن انتخبن أعضاء في المجلس التأسيسي، ساعدها - للحفاظ على مكتسباتها الحقوقية - الجو السياسي التونسي العام الذي بدا متآلفا ومنفتحا. الجزائر لم تشأ العودة إلى مرحلة دموية عاشتها لمدة عشر سنوات، وذلك عقب إلغاء الانتخابات التشريعية في 1992، إثر فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بجولتها الأولى، لذا فقد حافظت على هدوئها واستقرارها نسبيا، وإن لم تمسسها رياح الثورات العربية، فقد كانت التمثيلية النسائية في البرلمان الجزائري جد مهمة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث انتخبت 148 امرأة، أي بنسبة 31 في المائة، وهي نسبة تفوق سويسرا وكندا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. في اليمن كان فوز توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام، أنضج ثمرة قطفتها اليمن من نخلة الربيع العربي، لكن تظل المرأة اليمنية تعاني من مشكلات عدة كضعف نسبة التعليم، وقضايا العنف والزواج المبكر والتمثيلية النسائية الضعيفة بالبرلمان اليمني وفرض النقاب والحجاب بالقوة. في المغرب، فإن مطالبة المرأة بحقوقها مسار بدأ بالنضال من أجل وطنها قبل مواطنتها، فقد أخفت الأسلحة أو نقلتها أو نشرت أخبار المقاومة أيام الاستعمار الفرنسي، واستمر هذا المسار النضالي متوهجا صاخبا بكبواته وانتصاراته منذ أربعينات القرن الماضي، توج بصدور «مدونة الأسرة»، التي دخلت التنفيذ في 3 فبراير (شباط) 2004، وبعد هبوب رياح الربيع العربي، انبجست حركة 20 فبراير، عجلت بسلسلة من الإصلاحات، كان أبرزها الإعلان الملكي عن صدور الدستور الجديد الذي صوت عليه المغاربة في فاتح يوليو (تموز) الماضي، ومن أهم بنوده تحقيق المناصفة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن الحكومة المغربية الجديدة التي تشكلت عقب الإعلان عن الدستور الجديد، تشكلت بصيغة المذكر، حيث التمثيلية النسائية ضعيفة بالمقارنة مع الحكومات السابقة، وبحقيبة وزارية يتيمة، وهي حقيبة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، بشكل صعد من حدة احتجاجات الحركة النسائية معتبرة هذه التشكيلة ضربا لتاريخ نسائي نضالي مغربي ولمكتسباته الثرية. فالثورات في الدول العربية كانت كتلك الشجرة الباسقة، الكل يتفيأ ظلها ويختلب بفتنة وبريق ونضج ثمارها، أما المرأة التي طالما سقتها وشذبتها، حين مدت يدها لتقطف فاكهة نضالها، وهي مفعمة برائحتها الزكية، انتفضوا وصرخوا في وجهها ومنعوها من قطفها، بحجة أنها فاكهة محرمة. يؤلمني أن يتم شدنا للوراء من طرف عقليات مناغية للعصور الغابرة، والعودة بنا إلى زمن الحريم، وأرتعب من فكرة أن الزمن المقبل ليس لنا، لكن ما يهدهد ألمي، استحضاري لنساء قدن التاريخ، كن سلطانات وملكات وحرات.. ك«ست الملك»، إحدى ملكات الفاطميين بمصر، التي حكمت بداية القرن الخامس الهجري والملكة أسماء والملكة أروى اللتين حكمتا صنعاء نهاية القرن الخامس الهجري، والملكة ديهيا التي حكمت المغرب قبل الفتح الأموي العربي، وشجرة الدر التي تولت حكم مصر في القرن السابع والسيدة الحرة، وهي امرأة استولت على السلطة في القرن السادس عشر في مكان غير بعيد عن مدينة طنجة المغربية، وكانت تلقب «بحاكمة تطوان» وتطوان مدينة بشمال المغرب، كانت تعرف وما زالت بمحافظتها الشديدة، ومارست السلطة خلال ثلاثين سنة (من 916ه إلى 949ه). فبمجرد استحضار هذه الأسماء وغيرهن كثير، أنتشي بجنسي كامرأة وأفتخر، ويزداد إيماني وثقتي بقوة المرأة العربية وشموخها وعزة نفسها وكياستها وحنكتها وعدم قبولها بالإذعان لأي ظلامية أو ضيق أفق، وقدرتها على صنع ربيعها العربي الخاص بها بفكرها ووعيها ونضجها واعتزازها بشخصيتها وبهويتها وانتمائها العربي.