بقدر أقل من التشنج وعدم الانجذاب إلى استقطاب يوزع المجتمع، يتعايش المغاربة مع تجربة الإسلاميين في الحكم بمنطق سياسي، لعله أقرب إلى الاستسلام لأحكام صناديق لاقتراع المتغيرة في الأزمنة والأمكنة. حتى وإن بدا أن هناك نزعة لا تريد التطبيع مع هذا التحول، وتراهن على أي هفوات لإبطال مفعول التجربة، فإن أحداً لا يستطيع الجهر برفضه إرادة الناخبين. احتاج الأمر إلى تمارين صعبة لترويض الفاعليات السياسية على تقبل فكرة أن ما من حزب أو تكتل في إمكانه أن يدعي وحده امتلاك كل الحقيقة. وساعد في ترسيخ هذا الاعتقاد، أن كافة الأحزاب المغربية حددت سقف التزام يحظر النزعات الدينية أو العرقية أو القبلية في الممارسات السياسية. بسبب تدرج هذا المسار عبر محطات لم تكن جميعها مرضية لتطلعات مشروعة، استطاعت التجربة أن تؤسس لنفسها تقاليد وفاقية وتحكيمية جنبت البلاد مخاطر التمزق والعصبية والاحتكار. وحين انفجرت المواقف التي كادت تغرق المجتمع إزاء التعاطي مع قضايا المرأة ومدونة الأحوال الشخصية أو بعض طروحات العلمانية وحرية المعتقد، كان اللجوء إلى الحوار ملاذاً آمناً انصهرت فيه إرادات متباينة المنطلقات، فالدولة التي تتسم بالمرونة والعقلانية في إمكانها دائماً أن تتغلب على أزماتها الطارئة بأقل قدر من الخسائر. مبعث السؤال حول المدى الذي تستطيعه هذه التجربة، أن طريق الديموقراطية وتكريس التداول السلمي على السلطة بخلفية تروم ترسيخ التعددية السياسية والفكرية والإعلامية، يبقى صعباً ما لم يستند إلى تقبل فكرة الاختلاف والتضحية من أجلها، وان كانت مضامينها معاكسة لقناعات هذا الطرف أو ذاك، فالتعبير عن الاختلاف لا يكون باستخدام القوة أو التهديد بالسلاح أو تحويل الشارع إلى ساحة صدام ومواجهة، أو تقديم صورة متحجرة عن الأديان بل يتم عبر الآليات التي تضمنها دولة المؤسسات القائمة على مبدأ فصل السلط وتثبيت قيم الحرية والمساواة ونبذ كافة أشكال التمييز. على رغم أن ربيع المغرب كان مختلفاً، فإن تعاطي إسلامييه مع الظواهر الناشئة كما في تونس وليبيا ومصر على مستوى الانفلات الأمني وظهور تيارات وجماعات أكثر تشدداً أو التلويح براديكالية منغلقة، كان بدوره مختلفاً، أقله أن «العدالة والتنمية» الإسلامي ترك عباءة الحزب في فضاءاته وارتدى بدلة الدولة التي تقيس المواقف والإجراءات بمعيار المصالح المشتركة لكل الفئات والمكونات، فقد بدا منفتحاً على الخصوم السياسيين ورجال الأعمال وفضل أن يحكم إلى جانب أحزاب متنوعة المشارب، وضمنها «التقدم والاشتراكية» الخارج من رحم الحزب الشيوعي بدل الاعتكاف عند مقاعد المتفرجين، ساعده في ذلك أن حلفاءه في الائتلاف القائم ابتعدوا عن استخدام «فيتو» الأفكار المسبقة. في المغرب أيضاً، يوجد سلفيون ويساريون وإسلاميون منضوون في جماعة «العدل والإحسان» التي ما زالت تضع مسافة أبعد حيال خيار المشاركة أو التغيير من الداخل. غير أن هذا التنوع ليس وليد اللحظة، وبالتالي فإنه لا يمانع في ركوب المسار الانتقالي إلا بالقدر الذي يكفل توازناً أعمق يخطو إلى الأمام. وربما أن من حسنات الظاهرة السياسية في البلاد أن حزباً تاريخياً بحمولة يسارية اسمه «الاتحاد الاشتراكي» اختار طوعاً أن يصطف في الواجهة الأخرى معارضاً الحكومة، على رغم أنه دعي للمشاركة في عرض سخي. دلالات الموقف أن الأزمات السياسية ليست وحدها ما يخلق المعارضة أو يدفع نحوها، بل المسار السياسي في أبعاده المختلفة هو ما يحدد الاختيار. وكما لم يتصور أحد في فترة سابقة أن المعارضة المغربية ستتوافق مع القصر برسم التناوب، الذي كان بعيد المنال، فإن التطور ذاته ينسحب على تجربة الإسلاميين المعتدلين تحت لواء «العدالة والتنمية»، وغداً لن يكون مستبعداً أن تنجذب جماعة العدل والإحسان إلى معترك مغاير. لا بد من استحضار أن فصائل معارضة في المغرب أشهرت السلاح في وجه النظام بصرف النظر إن كان ذلك بالشراسة التي كان يسوقها صقور القصر ذاتها أم بنوع من المغالاة. ولا بد من التأكيد أن خيار المشاركة استقوى على ما عداه من الحسابات. وليس مفهوماً كيف أن دولاً تصنف ضمن الربيع العربي لا يزال بعض أبنائها يلوحون بخيار العنف والاستئصال. والراجح أن الثورات ليست وحدها تأكل أبناءها، فالأبناء أيضا يُجهزون على الثورات.