"الخبر" الجزائر: حميد عبد القادر يعتبر الصحفي الفرنسي بول بالطا، المولود بالإسكندرية سنة 1929، أن الرئيس هواري بومدين كان ينوي التخلي عن النظام الشمولي، ابتداء من سنة .1978 وذكر بالطا، في حوار مع ''الخبر''، أن سبب تأخر الإصلاحات السياسية في الجزائر يرجع إلى اعتقاد الرئيس بومدين بأن الشعب الجزائري لم يكن يملك نضجا سياسيا كافيا. *عملت في الجزائر كمراسل ليومية ''لوموند'' بين 1973 و1975 وكنت مقرّبا من الرئيس بومدين، كيف كان يبدو لك؟ - كنت ألتقي الرئيس هواري بومدين كثيرا، وأدركت خلال اللقاء الأول الذي جرى بيننا أنه كان يعرف أدق التفاصيل عني، وهو من أخبرني بذلك، كان يعرف أن والدتي من أصول مصرية ولبنانية، فقال لي: ''بالطا، أنت تفسر العالم العربي من الداخل. وعليه، أنا سعيد بوجودك معنا، أنت واحد منا''، ثم قلت له: ''سيدي الرئيس، أريد أن أجري معك حوارا، وأعرف أن كل حواراتك الرسمية تتم بالعربية، وهذا لا يزعجني، لكن عربيتي محدودة جدا، فقد درست العربية في الإسكندرية مدة لا تتجاوز ساعة ونصف في اليوم، لكن الطريقة التي درست بها جد كلاسيكية وتقليدية، ومرتبطة بالماضي البعيد''. فرد قائلا: ''يبدو أن الأمور لم تتغير للأسف''. وأضاف: ''بالطا، لقد فعلت الكثير من أجل ثقافتنا، وكرامتنا. (وكان يقصد العالم العربي طبعا). بدأنا بالفرنسية، وما عليك إلا أن تختم بالفرنسية. وهكذا، كان الحال، أجريت معه الحوار بالفرنسية، لكننا كنا نتحدث بالعربية في بعض الأحيان، وأدركت أنه كان يتقن الحديث باللغة الفرنسية. * خصصت فصلا كاملا في مذكراتك التي تصدر قريبا للرئيس بومدين، للإصلاحات التي كان ينوي القيام بها، هل أسرّ لك بذلك؟ - حاورت الرئيس بومدين مدة خمسين ساعة، على مرات عديدة، كان يبدو فخورا بإقامة نظام مؤسساتي. ذات يوم، قال لي: ''فيما يتعلق بالديمقراطية، أعتقد أن الذين سبقوني تصرفوا بشكل مقلوب، بدأوا من البرلمان، كأنهم وضعوا الهرم بالمقلوب. وأنا قرّرت البدء من القاعدة''. ثم سألته متى سيفكر في إنشاء المجلس الوطني، فكان رده: ''أعتقد أن الشعب الجزائري لم ينضج بعدُ، على خلاف البلديات والمجالس الولائية، فإن المجلس الشعبي الوطني سوف يكون بمثابة واجهة داخلية وخارجية، ولا أريد أن يكون بمثابة واجهة لخلافاتنا وجهويتنا''. وهذا لم يمنعه طبعا من الشروع في عدة إصلاحات، منها الميثاق الوطني، والدستور، والانتخابات الرئاسية، لينشأ المجلس الشعبي الوطني سنة .1977 *لكنك غادرت الجزائر سنة 1975 وتوجهت إلى إيران لتغطية ''الثورة الإسلامية''، هل وصلتك أصداء عن تلك التغييرات؟ - فعلا. في سنة 1978 استدعتني إدارة جريدة ''لوموند'' كي أقوم بتغطية الثورة الإيرانية، ذهبت إلى بومدين وأخبرته بأنني متوجه إلى طهران، فأبدى نوعا من الأسف على مغادرتي الجزائر، وقال: ''لقد عايشت مختلف المراحل التي أدت إلى ظهور المؤسسات الجزائرية، كان عليك أن تعايش التحولات إلى نهايتها، سأحدث تغييرات هامة، وأتصور عقد مؤتمر كبير لجبهة التحرير الوطني بين نهاية 1978 وعام .1979 علينا أن نوضح الأمور، حتى ندرك نجاحاتنا وإخفاقاتنا، ونحدث التصحيح، ونشرع بعدها في وثبة جديدة. أعتقد أنك الأقدر على تتبع هذه المرحلة الجديدة''. فسألته إن كان ينوي الشروع في انفتاح ديمقراطي، وفي سنّ حرية التعبير، وجعلتني الابتسامة التي ارتسمت على محياه أستخلص أنه كان موافقا على مثل هذه الخيارات. وبعده بفترة وجيزة، أسرّ لي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أنه كانت له فعلا نوايا في هذا الاتجاه. * كيف يمكن تفسير واقع العلاقات الجزائرية الفرنسية في عهد بومدين؟ - في عهد بومدين، كانت هناك نوايا جيدة في اتجاه علاقات واضحة، ففي سنة 1967 وجه ديغول دعوة لبومدين لزيارة فرنسا، لكن بومدين رفض تلبية الدعوة، لأنه كان يفضل القيام بزيارة رسمية، إلا أن الظروف لم تكن مواتية حينها. بعدها، عاود الرئيس بومبيدو توجيه الدعوة لبومدين، إلا أن الزيارة لم تتم مرة أخرى، بسبب تأميم المحروقات من قبل الطرف الجزائري. أما زيارة الرئيس جيسكار ديستان للجزائر سنة 1975 فقد كانت فاشلة لعدة أسباب، منها أن الرئيس الفرنسي لم يكن في مستوى خطاب بومدين الذي كان يدعو إلى تعاون على المدى البعيد، فردّد جملته الشهيرة: ''يجب طيّ الصفحة. لكن هذا لا يعني تمزيقها، بقدر ما يعني النظر إلى المستقبل''. لم يكن الرئيس جيسكار ديستان في المستوى، فقد أسرّ لي السفير الفرنسي في الجزائر آنذاك أنه كان ينعت الرئيس بومدين ب''البونيول''، وهذا يعبّر عن ثقافته الضحلة التي لم تكن في مستوى ثقافة الجنرال ديغول الذي كان يقدّر الرئيس بومدين تقديرا كبيرا. بومدين وديغول كانا يريدان فعلا طيّ الصفحة من أجل بناء المستقبل، وهذه الفكرة توقفت مع جيسكار ديستان، للأسف. *كيف تنظر إلى واقع العالم العربي عقب الثورات الديمقراطية التي اجتاحته؟ - أعتقد أن الثورات العربية حملت كثيرا من الآمال للشعوب العربية، رغم الصعوبات التي تعترضها على أرض الواقع، لقد أسقطت جدار الخوف بينها وبين الديكتاتوريات، وبإمكان الشعوب العربية الآن أن تتحكم في مصيرها. لكن الواقع الذي يختلف من بلد إلى آخر، يعتبر أكثر تعقيدا، وأعتقد أن الثورة التونسية هي التي نجحت اليوم، لأن الإسلاميين لم يقطعوا الصلة مع إرث بورفيبة. *وهل أنت راض على الكيفية التي تدخل بها الغرب في ليبيا؟ - أبدا. صحيح العقيد معمر القذافي كان ديكتاتورا، لكن علينا أن نعترف، في المقابل، أنه حقق عدة إنجازات. وعليه، أستنكر الكيفية التي تمت بها تصفيته. كانت بشعة، وغير إنسانية بالمرّة. كان على النظام الجديد أن يقدمه للمحاكمة. لكن لدي مصادر أكدت لي أن الولاياتالمتحدةالأمريكيةوفرنسا طالبتا في سرية تامة بأن يقتل، لأنهما لم تكونا ترغبان في سماع القذافي يتحدث خلال محاكمته عن المساعدات التي كان يتلقاها من قبلهما لما كان في السلطة، حتى يضمن امتيازاتهما. واليوم، نرى أن ليبيا أصبحت غارقة في الفوضى العارمة. الغرب لا ينظر إلى الأنظمة العربية سوى من زاوية سلبية، ينظر مثلا إلى نظام صدام حسين كأنه نظام يجسد الشر المطلق، بينما الواقع يقول العكس تماما. صدام حسين حقق إنجازات هائلة في العراق، قضى على الأمية، ونجح في ثورته الثقافية، وأعطى حكما ذاتيا للأكراد، وكان مستوى المعيشة في العراق الأحسن في كل العالم العربي، إضافة إلى كثير من الإنجازات التي وضعت العراق في عهده على خطى الدولة العباسية. أما اليوم، فالعراق كله خراب، للأسف، وهذا ما يريده الغرب.