*احتلت الجزائر موقعا بارزا في المعارك التي عرفتها السبعينيات حول الطاقة والمواد الأولية وإصرار دول الجنوب على مناهضة الاستعمار الجديد * الصحراء مثال على تطور الأمور في ظل النظام الشمولي العربي، فيعطي لنفسه دورا هيمنيا بناء على ما لا حد له من الأوهام والتطلعات يسجل الدكتور طالب أن بومدين بقي يسكن في شقته الواقعة بالمقر القديم لوزارة الدفاع، ويذكر أن قائمة الطعام في مائدة الرئيس لم تكن تتغير، وحينما كان يشتهي أكلة شعبية غير قطعة اللحم التي لا تحتاج إلى طباخ ماهر، كان يدعو نفسه إلى بيت الدكتور أحمد طالب. وكان بومدين صارما مع نفسه، فقد حدث أنه كان يترأس اجتماعا، ودخل عليه مسؤول من ديوانه بورقة اطلع عليها، ثم تابع الاجتماع دون أن ترمش له عين. وبعد ذلك علم أن البطاقة كانت تتعلق بوفاة والده، وحرص هو على أن يأمر بأن لا تتجاوز مراسيم الدفن الإطار العائلي. ويقول لنا طالب إن بومدين كانت له ثلاث مصادر استخباراتية هي الأمن العسكري والأمن الوطني والدرك. وبالطبع كان بومدين حريصا على سير الأمور وفق ما كان يراه هو. وما يسميه المؤلف ببناء مؤسسات الثورة التي أقامها بومدين هي بالطبع مؤسسات الحزب الوحيد. فمجلس الثورة المؤلف من 26 عضوا كان يضم 23 عسكريا. وكان مجلسا صوريا. وذكر المؤلف أن اثنين من أعضائه أثارا الانتباه إلى انحرافات تقع في القيادة ولكن بقي كل شيء على حاله. و نقل أحمد طالب عن بومدين قوله: الحزب الواحد أو الفكر الواحد ضرورة في وقتنا الحالي، بعد قرون من الانحطاط، وقرن من الاستلاب. عندما نستعيد شخصيتنا وترسخ أصالتنا سيجيء التفتح بصفة آلية. وفي انتظار ذلك كان لابد من أن تستمر الأمور كما هي مقررة. ففي ما لا يحصى من المواقف يتحدث أحمد طالب عن أنه كتب تلك الافتتاحية أو تلك عن تنقلات الرئيس، وقراراته، وخطبه، وعن الأحداث التي تشهدها البلاد. ويضيف أن تلك الافتتاحيات كانت تعمم على صحف الحزب و الحكومة. كان الوزير إذن هو الصحافي الأول، ورئيس الجمهورية هو رئيس التحرير الأعلى. صرامة مع فرنسا وشفافية مع الآخرين واقتضى الأمر أن توضع الأمور في نصابها مع فرنسا. وبفضل ذلك أمكن تحقيق الجلاء في سنة 1964 قبل سنة من موعده. كما تم تفكيك القواعد في المناطق الصحراوية قبل الموعد الأقصى. وفي كثير من المواقف تم توضيح الأمور مع باريس بشفافية وصرامة، وصولا إلى "عدم الاستمرار في تزييف تاريخنا" ( ص 418 ). ورفض أحمد طالب ما قاله مالرو من أن الجزائر ستظل فرنسية كما بقيت فرنسا رومانية.( ص 432) وصرح بومدين في مارس 1971 بأن "البترول يجب أن يكون في خدمة الاقتصاد الوطني ، وعلى فرنسا أن تتأقلم مع هذا القرار". وقال الجزائريونلفرنسا دائما إنه إذا تمادت في محاصرتها، فإن الجزائر ستبيع بترولها إلى الغير، وستشتري ما تحتاجه من هذا الغير. وسجل أحمد طالب أن الأمور لم تتحسن مع فرنسا على عهد بومبيدو لا في ظل جيسكار الذي قال إن التيار لم لم يمر بينه وبين بومدين " لأن هذا تعلم في الأزهر وليس في جامعة فرنسية ". وكان على جزائر بومدين أن تصفي الحسابات مع أكثر من طرف. فبعد الانقلاب الذي أطاح ببن بلة، تدهورت الأمور مع مصر التي طالبت "باسترجاع بن بلة، وكأنه مواطن مصري" ( ص 318). كما استاءت الأحوال قليلا مع الاتحاد السوفياتي، ولكن السوفييت فهموا بسرعة أنه لا تغيير في التحالفات الدولية للجزائر المستقلة. وشيئا فشيئا نكتشف كيف أن جزائر بومدين أخذت تنشئ لنفسها موقعا في الخريطة العالمية، عبر احتلال موقع بارز في المعركة التي عرفتها السبعينيات حول الطاقة والمواد الأولية وتموقع دول الجنوب في معسكر لمناهضة الاستعمار الجديد. وهذا المسار أدى بالجزائر إلى أن تكون في الطليعة، وأن تتطلع إلى القيام بدور بارز إن لم يكن لا غنى عنه. وكانت البداية بحرب 1967 حيث أعلن بومدين الحرب على إسرائيل، واختار خطا انتهى به إلى التموقع في " جبهة الصمود والتحدي " بعد ذلك بعقد. وتحقق له بفضل موقفه الفلسطيني أول التفاف وطني كبير حول السلطة حدث في الجزائر منذ الاستقلال. وتلت ذلك خطوات جسورة في شكل مبادرات حول المواد الأولية في الأممالمتحدة و حركة عدم الانحياز. وأقدم على مشروع لإنشاء الطريق الصحراوي نحو إفريقيا استغرق العمل فيه من 1971 إلى 1978. وظهر لبومدين أن الظروف مواتية ليقول إنه قبل سنة 2000 ستصدر الجزائر منتوجاتها المصنعة نحو إفريقيا كلها، وستكون مدخولاتنا من تلك الصادرات مقاربة لمدخولاتنا من المحروقات ". وواكب تلك المبادرات خطاب إرادوي تأجج في أواسط السبعينيات حينما تسنى للجزائر أن تستضيف القمة الإفريقية في 1972، وأن ترأس حركة عدم الانحياز في 1973، بحضور 70 رئيس دولة وحكومة في الجزائر في مؤتمر حاشد. ثم حصلت على تزكية إجماعية في منظمة الوحدة الإفريقية لكي ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1973. ثم كانت قمة دول الأوبيب سنة 1975 بالجزائر التي منحتها صوتا مرتفعا في قضايا الطاقة. وبالذات للرد على المقولة الغربية بأن الدول المنتجة هي المسؤولة عن الاضطراب الذي لحق الاقتصاد العالمي. كما سنحت الظروف بالقيام بوساطة بين إيران الشاه وعراق البعث. وهذا الصعود المضطرد للجزائر كنجم في السياسة العالمية، أوحي لها بأنها أصبحت مؤهلة لكي تكون لها الكلمة الفصل في عدد من القضايا، وخاصة الأمور المطروحة في المنطقة. وهو صعود أصاب الجزائر بداء التعالي، الذي أدى بها في قضية بعينها وهي الصحراء إلى الإصابة بالعمى السياسي. ومع تقدم الزمن وتقلب الأحوال، أضيف إلى هذا وذاك، داء التحجر في مواقف تنتمي إلى أفكار طالها التقادم. التحجر في مفاهيم الماضي وتطرق الدكتور أحمد طالب لملف الصحراء، وهو متأثر بتلك النظرة المتعالية، فأورد مقولات متهالكة هي التي كان – ولا شك - يرددها للرؤساء الأفارقة الذين كلف بمراودتهم، في غمرة ردود الفعل الغاضبة للجزائر في 1975 وما بعدها. وفي لحظة شرود ذهني طال أمره، ظهر للدكتور أحمد طالب أنه من الجائز أن يقول في ص 371 ج 2 إن المغرب "كان يستعمل بيدقا من أجل تعطيل الثورة". (باز) ولابد أن أصحاب القرار في الجزائر كانوا مقتنعين بما يلي: - أن ملف الصحراء لم يبدأ إلا في سنة 1970. وهذه نرجسية لأن هذا هو توقيت يقظة الجزائر على حاجتها إلى دور إقليمي، فاكتشفت أن ذلك الملف يساعدها على بلوغ رغباتها. - أن بروز ملف الصحراء تعبير عن وجود استراتيجيا لعدوان استعماري جديد لضرب الثورة الجزائرية. (ص 491 و 497). وكانت تلك الاستراتيجيا – كما يقول - في محورين: محور واشنطن باريس مدريدالقاهرة تل أبيب. ومحور باريس مدريدالرباطنواكشوط داكار. ويجب أن أقسم لقرائي بأن هذا الكلام مسجل بمنتهى الجدية في كتاب السيد طالب. وما عليهم سوى أن يرجعوا إلى ص 497 من ج 2 من المذكرات. إن الكاتب يلخص الوضع لقرائه بالتقنيات المعهودة في وزارات الإعلام من النمط الستاليني. وبتوابل من مذهب غوبلز يقع قلب للحقائق فيقال مثلا إن أول من طرح مسألة الصحراء في الأممالمتحدة هي موريتانيا. وذلك في 1964. (باز، مرة أخرى) أقسم أن هذا هو ما أخبر به السيد طالب قراء مذكراته. وأكد لمن يستطيع أن يصدقه إنه في نطاق سياسة المحاور التي تستهدف الثورة الجزائرية، كثفت فرنسا تدخلها العسكري في الصحراء الغربية حتى وإن كانت على الصعيد الرسمي ما زالت تنكر ذلك (ص 500، نفس المصدر). وحينما يستند إلى مراجع يعزز بها أطروحته، يستشهد بالسيد أحمد بابا مسكة، الذي كان السيدان هوفمان وملايكة قد نصباه أمينا عاما للبوليزاريو، وهو الذي جاء إلى ذلك المنصب، من رئاسة الوفد الدائم الموريتاني في الأم المتحدة. ويضيف مصدرا آخر هو السيد بول بالطا الذي كان معبأ صباح مساء لترديد الأطروحات الجزائرية بشأن الصحراء وغيرها من المعارك التي كان الحزب الوحيد في الجزائر يرفع رايتها. وعلاوة على الحقائق المقلوبة، كانت هناك أوهام، مفادها كما ورد في ص 478 ج 2 أن الملكية المغربية كانت معزولة. وتصورت الأجهزة الجزائرية تبعا لما ورد في المذكرات أن المغرب ضعيف ومنهزم (ص 501)، وأن الزمن يعمل لصالح البوليزاريو (ص 506). وأخيرا فإن حربا مع الجزائر ستعني سقوط الملكية. وبما أن الجزائر "لابديل عنها" (ص ص 477 و 478) فليس على المغرب إلا أن يقبل ما تقضي به الجزائر التي تمسك بمطرقة الرئاسة في الجمعية العامة للأمم المتحدة وعدم الانحياز والوحدة الإفريقية ومنظمة الأوبيب، وغيرها من الماشانات التي كانت تؤثث مشهد السبعينيات. سكرة السبعينيات وفي غمرة ذلك تجرأ المغرب فأحدث تطورا خطيرا (كذا) في سبتمبر وديسمبر 1974 حينما اقترح على الأممالمتحدة أن تستفتي محكمة لاهاي. ثم إن الحسن الثاني "تنكر لالتزاماته" (ص 479) أي أنه طرح مطالبه بشأن الصحراء دون أخذ إذن ممن يجب. وأكثر من ذلك أقدم المغرب على الاتفاق مع موريتانيا واتفق معها على التقسيم وهذا يمثل "تهديدا يحوم حول حدودنا الغربية". وهكذا نشأت لدى أصحاب القرار في الجزائر حساسية تصور لهم أن كل صيحة هي عليهم، في حين أن المغرب لا يسعى إلا إلى استرجاع ما هو له. إن إحدى ميزات هذه المذكرات تكمن في أنها تساعدنا على تذكر كيف تتطور الأمور في ظل نظام شمولي، حينما يعطي لنفسه دورا هيمنيا بناء على ما لا حد له من الأوهام والتطلعات. لقد شاء التاريخ أن تتحول مسألة الصحراء كنزاع إقليمي، بعد أن كانت نزاعا مع دولة استعمارية في وقت مهم من تاريخ الجزائر، حينما كانت هذه قد استوت كقوة إقليمية، - كما تصورت - في حين كان المغرب مشغولا بذيول محاولتين انقلابيتين حصرت الاهتمام في أسوار تواركة في الوقت الذي كانت السيوف تشحذ شمالا وشرقا. وهذا التوقيت أعطي لقضية الصحراء وزنا فائقا في السياسة الجزائرية التي تكونت لها هوية توسعية – حقا، لا مجازا - كانت ترافقها عملية ضخمة موازية، هي بناء هياكل النظام الشمولي في ظل مؤسسات دائمة. ففي ذلك الوقت أخذ النظام، وقد استقوى خارجيا، يتجه إلى ترتيب أوضاعه الداخلية ليكرس شرعيته. وفي ذلك الوقت كان محور تلك العملية هو الميثاق الوطني، والإعداد لمؤتمر الحزب الوحيد، والدستور وانتخاب البرلمان ليحل محل مجلس قيادة الثورة. ولتقدير أهمية ملف الصحراء بالنسبة لفريق بومدين تكفي الإشارة إلى أنه شغل في "مذكرات جزائري " فصلا لا تقل صفحاته عن 49، في حين أن الفصل الذي تحدث فيه عن بناء مؤسسات الدولة لم يشغل أكثر من 29 صفحة. وهذا بالإضافة إلى ما هو وارد في ثنايا فصول أخرى عن الصحراء بمناسبة الكلام عن المهمات التي قام بها الوزير الإبراهيمي في القارة الإفريقية والعالم العربي حاملا شروح الجزائر لموقفها ولمحاولة اجتذاب التأييد لذلك الموقف. وفي الفترة ما بين 1975 و 1978 شغلت قضية الصحراء حيزا غطى على ما عداه من جوانب مشروع وطني محوري من قبيل بناء المؤسسات. ولم يكن لذلك من سبب سوى أن بناء الدور الإقليمي المهيمن للجزائر كانت له ركيزة واحدة هي تحطيم المغرب القوة الوحيدة في المنطقة التي تقوى على أن تقول لا للجزائر التوسعية. وهو واقع ليس نتيجة لعنة الجغرافيا، بل لعنة الجوار مع نظام شمولي. كان المغرب عازما على استكمال وحدته الترابية، بتحرير الصحراء وانتزاعها من قبضة إسبانيا، بعد أن كلفه ذلك سنوات من انتظار تسويتها ثنائيا مع مدريد غداة الاستقلال في 1956، ثم على صعيد المحافل الدولية. وسجل التاريخ، وأرشيف الأممالمتحدة، أنه بتدخل من الوفد المغربي في دورة 1958 بعد مماطلة من جانب الدولة الاستعمارية، تمت مطالبتها أمام الأممالمتحدة بان تسوي النزاعات الترابية المعلقة معها، بمقتضى المادة 73E من ميثاق المنظمة الأممية. وبناء على ذلك المطلب أصدرت اللجنة الرابعة التوصية رقم 1467 (14) بتاريخ 12 ديسمبر 1959، لفائدة الطلب المغربي، وهذا من قبل أن تستقل كل من موريتانيا والجزائر، في حين أن تدخل المغرب في الدورة 14 للجمعية العامة، كان محوره الأساسي، تطبيقا لمؤتمر طنجة، هو التصدي للادعاءات الفرنسية بشأن الجزائر، وصولا إلى الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المسألة التي كانت قد أصبحت هي أولوية الأولويات، في السياسة المغربية.