الصدامات الدموية التي شهدتها مدينة بنغازي امس بين مؤيدي الفيدرالية ومناهضيها تعكس حالة التدهور التي تعيشها ليبيا حاليا بسبب هيمنة الميليشيات المسلحة، وانتشار السلاح، وغياب المصالحة الوطنية، وضعف الحكومة المركزية والمجلس الوطني الانتقالي الذي من المفترض ان يدير شؤون البلاد بعد اسقاط نظام العقيد معمر القذافي وقيادتها بالتالي الى بر الامان. المؤيدون لاعلان منطقة برقة ولاية فيدرالية يريدون اعادة التاريخ الى الوراء، وبالتحديد الى عام 1943 بعد تقسيم ليبيا الى ثلاث ولايات تحكمها احدى القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية اي بريطانيا (برقة) وفزان (فرنسا) وطرابلس (امريكا). هؤلاء دعاة الفيدرالية يريدون الاستئثار بثروات برقة النفطية الهائلة التي تشكل الغالبية الاكبر لمخزون البلاد من هذه السلعة المطلوبة عالميا، وتشكيل مشيخة نفطية على غرار مشيخات الخليج، والانفصال تدريجيا عن باقي المناطق الليبية الاخرى. صحيح ان المطالبين بالفيدرالية يؤكدون انهم لا يريدون تقسيم البلاد، ويقولون انهم سيتركون امور الدفاع والخارجية الى الحكومة المركزية، ولكن الصحيح ايضا انهم ينطلقون من منطلقات مناطقية وقبلية تمييزية حيث يعتبرون انفسهم مختلفين كليا عن منطقتي طرابلس في الغرب وفزان في الجنوب، ويتمتعون بهوية ثقافية خاصة بهم. المفاجأة ان هذه الدعوة للفيدرالية جاءت مبكرة جدا علاوة على كونها غير متوقعة، فمؤسسات الدولة الجديدة لم تتأسس بعد، وسيطرة الحكومة المركزية على الاراضي الليبية ما زالت ضعيفة ومنقوصة، والدستور الجديد لم يكتب بعد، والشيء نفسه يقال ايضا عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وعنصر المفاجأة هنا يؤكد ان الاعداد لفصل ولاية برقة عن الولايتين الاخريين ليس وليد الساعة، وانما ثمرة اعداد مسبق استغرق سنوات، فليس من السهل جمع حوالى خمسة آلاف شخص في مدينة بنغازي واختيار رئيس الا اذا كان هناك عمل دؤوب خلف الغرف المغلقة، وربما حتى قبل اندلاع الثورة الليبية. لا نعتقد ان جهود دعاة الفيدرالية ستتوقف او ان فكرتهم هذه ستتوارى وتندثر، فليبيا الآن تقف على مفترق طرق، وكل الاحتمالات واردة، ويكفي التذكير بما آلت اليه الفيدرالية في العراق من تقسيم طائفي وعرقي للبلاد اضعف الجميع واسس لصراعات وتقويض للدولة المركزية. فالمناطق الكردية في الشمال باتت دولة مستقلة بالكامل لها علمها وحكومتها ومطارها ونشيدها الوطني ولغتها، وبالكاد يمكن رؤية علم الدولة الفيدرالية. استقلال برقة بطريقة مباشرة او غير مباشرة، سيؤدي الى حرمان الولايات الاخرى من الثروة النفطية، وتكديسها في منطقة واحدة، حتى لو رفض اصحاب فكرة الفيدرالية هذا المفهوم ونفوه في ادبياتهم، وفي هذا اجحاف في حق هؤلاء جميعا، وهم الذين شاركوا في الثورة وقدموا آلاف الضحايا، وليس مكافأتهم بهذه الطريقة التي تنطوي على الانانية ونكران الجميل.