عندما اتفق التونسيون على ضرورة كتابة دستور لتونس ما بعد الثورة يتجاوز دستور 1959 الذي تعرض إلى تحويرات خطيرة سياسية المآرب، كان هذا الاتفاق نقطة مفصلية، لأنه حوّل الوجهة نحو انتخابات ليست تشريعية ولا رئاسية، بل انتخابات من أجل مجلس وطني تأسيسي مهمته الأساسية كتابة دستور يضمن لجميع التونسيين حريتهم وحقوقهم ويحدد واجبات الأطراف كافة. في تلك الأثناء، أي عندما اختارت تونس الطريق الطويل الذي يبدأ بخطوة انتخاب أعضاء مجلس وطني تأسيسي، كانت تدور عدة أحاديث في الكواليس الاجتماعية والسياسية والفكرية، ومن أهم هذه الأحاديث التساؤل في حيرة وقلق خاصة في صفوف النخب الحداثية عن مصير الفصل الأول من الدستور التونسي، هل سيبقى على حاله أم أن كفة النخب الإسلامية ستغلب وستنجح في ما فشل فيه الشاذلي النيفر خلال المجلس القومي التأسيسي لسنة 1959؟ وها هو الجدل اليوم يدور حول الفصل الأول في ما يشبه معركة مباشرة وغير مباشرة، حامية وباردة، إلى درجة ليست مبالغة إذا قلنا إن تجاوز هذا الجدل بشكل إيجابي وذكي ستتلاشى معه عدة مشاكل فكرية وتواصلية بين النخب في تونس ما بعد الثورة. وكي نفهم أسباب الخلاف الراهن حول الفصل الأول من الدستور التونسي، من المهم توضيح بعض النقاط، وأولاها مضمون البند الثاني من الدستور التونسي لسنة 1959 نفسه، الذي ينص صراحة على أن «تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها». ونجد اليوم ثلاثة مواقف إزاء هذا البند: • الموقف الأول يتبنى نفس صيغة هذا البند ومحتواه. • الموقف الثاني يريد تأكيدا صريحا وحاسما من خلال اعتماد صيغة «تونس دولة إسلامية»، بدل «تونس دولة دينها الإسلام». • أما الموقف الثالث فهو يهدف إلى حذف المسألة الدينية تماما مراعاة لقيم المدنية. ما يهمنا في هذه المقالة الموقفان الأولان، وسنفرد مقالة خاصة للموقف الثالث. في البداية نشير إلى أن الجدل حول هذا البند قديم، وقد ذكر لي أحد كبار وزراء بورقيبة السيد محمد الصياح في حوار أجريته معه عام 2004 أن هذا البند استأثر سنة 1957 بنقاشات مطولة، وأن بورقيبة رفض أن توضع في الدستور صيغة «تونس دولة إسلامية» التي اقترحها آنذاك الشاذلي النيفر. فالوعي باختلاف الصيغتين («دولة إسلامية» و«دولة دينها الإسلام») كان حاضرا بقوة من ناحية أن الصيغة الأولى تفيد تقيد الدولة بالإسلام، وأنه لا مجال فيها لأديان أخرى، على خلاف الصيغة الثانية المفتوحة والأكثر انسجاما مع التاريخ الحضاري التونسي. النقطة الثانية الجديرة بالإشارة هي أن الصيغة المنفتحة ليست فقط نتاج خيارات النخبة السياسية الحاكمة الأولى في الدولة الوطنية التونسية الحديثة الاستقلال آنذاك، بل هناك أرضية تاريخية قد سمحت بظهور مثل هذه الرؤية في مجتمع من خصائصه الوحدة الدينية والوحدة المذهبية. من ذلك إصدار قانون الأمان عام 1957 الذي ينص ويدافع ويضمن حرية التدين. ومن ثمة فإن اختيار الصيغة الراديكالية سيكون أشبه بسباحة ضد التيار. إلى جانب هاتين المسألتين هناك نقطة أخرى يدركها أهل القانون جيدا، وهي أن الفصل الأول من الدستور التونسي يمثل جوهر الرؤية التشريعية العامة في البلاد التونسية، وعلى ضوئه خطت تونس في مسار التحديث، وصادقت على اتفاقيات دولية تقتضي مسحة علمانية، بمعنى أن الصيغة الراديكالية ستضع تونس في تصادمات هي في غنى عنها ولا ضرورة لها أصلا خصوصا أن الإسلام يشكل في المجتمع التونسي عاملا سوسيولوجيا مهما، والدين أولى مقومات البناء الرمزي للهوية. ناهيك عن أن التشريعات هي في توافق مع جوهر الدين الإسلامي والرؤية القائمة على الاجتهاد في فهم الإسلام ومقاصده. طبعا ما جعل القلق يتعاظم إزاء مصير هذا الفصل وإمكانية تعرضه للتحوير الذي سيربك الواقع التشريعي العام والخاص، هو مظاهر الانغلاق الديني السلوكية، التي طرأت على بعض الفئات الاجتماعية والعمرية. فالقلقون يرون أن العلامات الدينية هي أكثر من مظاهر ثيابية، فهي منظومة ثقافية ورؤية دينية صرفة للعالم والذات والعلاقات الاجتماعية. من هذا المنطلق، يبدو لنا التوصل إلى موقف وفاقي، يعيد إنتاج الفصل الأول من الدستور القديم توظيفا لروحه التوافقية من جهة ورؤيته الحداثية المعاصرة من جهة ثانية، مسألة لا مفر منها. وكي يتم التوافق بشأن مسألة مهمة وحاسمة كهذه من المهم أن يتحول الجدل الصاخب الذي يغلب عليه التراشق والاتهامات والخلط العشوائي في توظيف المفاهيم (اللائكية والعلمانية والحداثة) إلى حوار فكري قانوني ثقافي معمق يبسط المفاهيم ويوضح الرؤى ويطرح أبعاد الأطروحات المقدمة دون السقوط في خطابي التكفير والتخوين. ولعل تصريح أكثر من وجه قيادي نهضوي بأن حركة النهضة مع المحافظة على صيغة «تونس دولة دينها الإسلام» يعد مؤشرا جيدا للغاية ومقدمة مطمئنة لبداية حوار ناضج ذي أهمية مستقبلية ومجتمعية.