يقترب السياسي المغربي، عبد الرحمن اليوسفي، من دائرة التسعين عاما، أمد الله في عمره؛ فقد ولد بمدينة طنجة يوم الثامن من مارس عام 1924. هي نعمة من الخالق على هذا الرجل الذي جاهد وكابد وتغرب، وهو وحيد الرئة، يعاني من متاعب السكري، ولا يعتني بصحته إلا رضوخا لضغط أصدقائه ومحبيه الذين يخشون عليه من نزوات عشق أطعمة ينهاه عنها الأطباء. هو الآن، يحتفل بعيد ميلاده، في مكان لا يعرفه إلا المقربون منه راضيا بعيشة متواضعة تعود عليها منذ سنوات النضال السري والغربة الاضطرارية. ما يعاني منه هذا السياسي النادر، ويحز في نفسه خيبة أمل مزدوجة ومضاعفة: الأولى نالها من حزبه الذي كاد، بسبب صراعات فارغة، أن يزهق روحه أثناء الأزمة الصحية الشهيرة التي ألمت به في خضم اجتماع عاصف للجنة المركزية، أدخل على أثرها مستشفى ابن سينا بالرباط حيث أجريت له جراحة دقيقة في الرأس، معتذرا عن إلحاح الملك الراحل الحسن الثاني الذي أصر على نقله إلى الخارج على عجل. ولما اقتنع الملك باعتذار "اليوسفي" إيمانا منه بكفاءة الأطباء المغاربة، لم يبق للملك سوى إحاطة وزيره الأول بالعناية الفائقة فزاره في بادرة غير مسبوقة بمستشفى عمومي، ما جعل اليوسفي يوثق تلك اللحظة والعيادة الاستثنائية بوضع صورتها في"برواز" مع أنها مأخوذة من جريدة "لوماتان". أما الخيبة الثانية، فربما أتته من حيث لم يدر ولم يحتسب . فاجأه القصر باختيار من سيخلفه على رأس الحكومة على الرغم من تصدر "الاتحاد الاشتراكي" نتائج الانتخابات التشريعية عام 2002. لم يستوعب "اليوسفي" القرار المفاجئ وحسب مقربين من حكيم السياسة المغربية،وهو المسيطر على انفعالاته، المنتقي لكلمات الكياسة في المواقف الحرجة، فإنه أثنى على الشخص الذي سيأخذ مكانه، دون أن يفوته إبداء ملاحظة مؤدبة مفادها أنه قبل شخصيا وحزبه المساهمة في تيسير الانتقال الديمقراطي في البلاد، والمراهنة برصيده النضالي والرمزي، بناء على عهد شفوي قطعه على نفسه الملك الراحل الحسن الثاني، يقضي باحترام ما سماه الاتحاد الاشتراكي لاحقا "المنهجية الديمقراطية" وبمقتضاها يشكل الحكومة الحزب المتصدر نتائج الانتخابات التشريعية . لم يجد اليوسفي بعد عودته من الاستقبال الملكي في مراكش، وبعد توشيحه بوسام وطني هو الأرفع، حزبا متماسكا جاهزا لمساندته، مستعدا للعودة للمعارضة والاحتجاج على النكث بالعرف السياسي. ما صدمه أكثر من عدم تكليفه بتشكيل الحكومة، تحول كثيرين في قيادة الحزب إلى منظرين ومبررين للاستمرار في تدبير الشأن العام. اجتهدوا في ابتكار الذرائع الغريبة من قبيل الزعم أن حكومة التناوب فتحت أوراشا كبرى في البلاد لا يصح تركها خشية التراجع عنها. أمام ذك الوضع الحزبي المحتقن، وأمام تكالب الطبقة الحزبية المغربية وتمسكها بأريكة السلطة، لجأ اليوسفي إلى سلاح السخرية من اللعبة السياسية برمتها . طاوع رغبة قيادة "الاتحاد الاشتراكي" مشترطا ترشيح اسم واحد بدل ثلاثة لكل منصب حكومي معروض على حزبه بينما امتثلت الأحزاب الأخرى المشاركة في الائتلاف، بتقديم ثلاثة مرشحين صارت أسماؤهم متداولة حوالي شهر في بورصة الاستوزار. وإمعانا في "السخرية" سلم اليوسفي الأسماء الاتحادية في ظرف مغلق إلى ادريس جطو المكلف بتشكيل الحكومة، وليس إلى جهة في الديوان الملكي . كثيرون، تمنوا أن يواكب اليوسفي الولاية التشريعية الثانية، بعد أن أعطته الصناديق الحق النسبي في ذلك بفارق محدود عن باقي الأحزاب. حجتهم أن المرحلة تتطلب رجالا من طراز "المعارض القديم" اعتبارا لسمعته ونظافة يده وعفة لسانه ورغبته في العمل الدءوب، والأهم من هذا سمعته في الخارج وشبكة علاقاته الدولية، بل اقترحوا بصوت خافت إعانة اليوسفي بنائب له من حزبه ذي خلفية تقنوقراطية يضطلع بمهام التسيير اليومية، ليتفرغ الوزير الأول للملفات السياسية الضاغطة والملحة مثل قضية الصحراء. دعاة "التشبيب"، كان لهم منطق آخر يتمثل في التخلص من عبئ الشيوخ رموز الماضي، ولو اقتضى الأمر إبعاد شخصية سياسية تاريخية بقامة اليوسفى ذي السجل الوطني الناصع. ذلك ما يفسر غضبة اليوسفي القوية، في محاضرة ألقاها فيما بعد بالعاصمة البلجيكية "بروكسيل" أعادت إلى الذهن ذلك النقد الذاتي الذي مارسه الزعيم اليساري المهدي بنبركة في حق نفسه وحزبه حينما عدد في كتاب الاختيار الثوري ما أسماه بالأخطاء القاتلة" التي ارتكبتها الحركة الوطنية في التعامل مع النظام. شرح اليوسفي في"بروكسيل" ملابسات وظروف تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب. كان مدركا للفارق بينه وبين رفيقه المهدي بنبركة، في المزاج الفكري والشخصي والسياق السياسي والتحول الذي أصاب المجتمع المغربي وميزان القوى الجديد، لذلك صاغ أفكاره الانتقادية بلغة العصر ومفرداتها المحينة. ولكنه نهل من نفس المعين الذي نهل منه ابنا طنجة والرباط. كلاهما أحس بالخيبة، من النظام الذي كافحا من أجله بكل استماتة ونكران ذات، خلال مرحلة الكفاح الوطني، فلم يعرف كيف يجازيهما بعد الاستقلال كقائدين كبيرين وكحركة سياسية كلفتهما مع آخرين تضحيات جسام. لكن الحكيم "اليوسفي" أدرى من غيره بدسائس الأنظمة في كل زمان ومكان، ولذلك زهد دائما في الحكم والسلطة ونأى بنفسه عنها إلى أن أقنعه الحسن الثاني بأنه مريض حقا وأن البلاد يتهددها ما هو أخطر. فاستسلم لنداء الاستغاثة. انتظر اللحظة المواتية لحين تفجير قراره التاريخي بالاعتزال والكف عن الخوض في مستنقع سياسي كان أسنا في ذلك الوقت. عيد سعيد، سي عبد الرحمن. انعم باعتكافك الصوفي الجميل وبمشاركة نساء العالم كله لك.