عشية انعقاد مؤتمر حزب الأصالة والمعاصرة المغربي، المعروف اختصارا ب"البام"، نسبة إلى الأحرف الأولى من اسمه اللاتيني، لاحظ المتتبعون أن خطاب بعض قيادات الحزب بدأ ينحو في اتجاه يكرس نوعا من الثنائية القطبية بين أصحاب "الشرعية التاريخية"، المشكلة من "تيار" مناضلي اليسار، وبين أصحاب "الشرعية الحزبية"، المكونة من مناضلي ما يُسمى بقاعدة الاندماج، التي تأسس عليها الحزب، وغالبيتهم من أحزاب يمينية صغيرة. وبين التيارين سيطرح على كوادر "البام" ومنظريه موضوع ترسيم الخط المذهبي للحزب وتحديد اختياراته، في ضوء التحولات المتسارعة، التي عصفت بطموحات الحزب لصدارة المشهد السياسي في البلاد، بعد نجاح "حركة 20 فبراير" في تحريك دواليب الإصلاح، التي توجت بتعديل الدستور وانتخابات 25 نوفمبر 2011، التي حملت المعارضة الإسلامية والأحزاب المتحالفة معها إلى الحكم. ويدفع أنصار الحزب بأهمية الدور الذي لعبته الشخصيات التي سارعت إلى تلبية نداء "النائب" فؤاد عالي الهمة، وعملت، بنشاط، على ملأ الفراغ الذي شهدته البلاد مع تشكيل حكومة عباس الفاسي بعد انتخابات شتنبر 2007 وانشغال أحزاب "الاستقلال" و"الاتحاد الاشتراكي" في تدبير الشأن العام، تاركة الساحة للتيار الإسلامي، الذي يُعتقد أنه سيقود البلاد إلى مربع العنف وعدم الاستقرار. ويذكر بعض أصحاب "البام" إعجابهم بفكرة "حركة لكل الديمقراطيين"، التي تأسست في يونيو 2008 والدينامية التي أطلقتها في الأوساط السياسية والاقتصادية، مستندة إلى المؤشرات المقلقة التي توفرت لزعيمها فؤاد عالي الهمة، بحكم قربه من دوائر القرار(!!!)، عن حالة المغرب التي رسمتها التقارير المختلفة ومنها، على الخصوص، تقرير الخمسينية وتقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، اللذين يُعدَّان وثيقتين مرجعيتين لفكرة الحركة والحزب. ومع تأسيس الحزب في غشت 2008 ل" المساهمة في رص صف كل القوى الديمقراطية قصد كسب رهانات التحديث والتنمية البشرية والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية"، فَهِمَ بعض المترددين ومن بينهم عباس الفاسي الوزير الأول آنئذ، ومصطفى المنصوري رئيس مجلس النواب، إن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمر لم يعد مجرد "ناد للتفكير"، على الرغم من استمرار دعم "الأصالة والمعاصرة" للغالبية الحكومية، إلى ذلك الحين، وتشكيله لفريق نيابي مشترك مع حزب "التجمع الوطني للأحرار" يضم 80 نائبا برلمانيا. وقد تابع المغاربة (بذهول) كيف تأسس الحزب على نواة مشكلة من 3 نواب برلمانيين، لينتقل إلى 45 نائبا، وكيف نجح في وقت وجيز من أن يصبح القوة السياسية الأولى، بعد الانتخابات المحلية في يونيو 2009، بُعيد انسحابه مباشرة من تحالف الغالبية وتموقعه في المعارضة، لينجح، بعد ذلك، في الظفر برئاسة مجلس المستشارين، مما أثار المزيد من المخاوف من احتمال استمرار "الوافد الجديد" في تكريس ظاهرة البلقنة والترحال، بعد كسبه لرهان المعركة الخاصة بالتفسير القانوني للمادة الخامسة من قانون الأحزاب. وبعد تسجيله لحصيلة إيجابية في انتخابات المجالس الإقليمية والجهوية وانتخابات الغرف المهنية وتجديد ثلث مجلس المستشارين، سينتقل "الجرار"، وهو الرمز الانتخابي للحزب، إلى السرعة القصوى، مُحاولا حصد مزيد من المكاسب تمكنه من كسب معركته الأساسية في "لجم الإسلاميين والحد من قدراتهم"، التي أعلن عنها مؤسسه فؤاد عالي الهمة، بشكل واضح، في مقابلته الشهيرة مع القناة التلفزية الثانية مساء الاثنين 10 شتنبر 2007. وفي ظل هذا الوضع، وجدت الأحزاب نفسها في وضعية غير مريحة أمام التقدم الجارف للحزب الجديد، الذي يبذل أعضاؤه مجهودا مُضاعفا لاستقطاب الأطر والعاطفين في محاولة لتقديم صورة مختلفة عن الأحزاب، تقود إلى مصالحة المغاربة مع السياسية وتمحو عثرة العزوف، التي أدت إلى تسجيل نسبة مشاركة غير مسبوقة في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، لم تتجاوز 37 في المائة. وأمام الصعوبات الاقتصادية والتحديات التنموية المطروحة على البلاد، كان لزاما على الطبقة السياسية أن تبذل المزيد من الجهود، لتنشيط السياسات العامة، سواء من موقع الغالبية الحكومية، أو من موقع المعارضة، التي ساهم منها حزب "الجرار" في رسم بعض ملامح توجهات العمل الحكومي لعامي 2010 و 2011، بحضوره المكثف في مناقشات القانون المالي أو من خلال مبادراته الأخرى في مجال تكريس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وترسيخ الحريات. إلا أن ذلك لم يكن ليمر على معارضي "المشروع السياسي برمته"، فارتفعت أصوات من داخل الأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي، الذي يقوده حزب الاستقلال، منادية بتصحيح الوضع وإعادة "الوافد الجديد" إلى حجمه الطبيعي والدعوة الصريحة إلى رفع يد "صديق الملك" عن استغلال وضعه في التأثير على القرار لصالح حزبه، وفق ما تُدُوِّل حينها عن تحكم للحزب في بعض أطر وزارة الداخلية على مستوى الولايات والعمالات. وفي معركة الكر والفر، التي ستنشب بين بعض أقطاب الحزب مع قيادات الأحزاب الأخرى، سيتمكن الحزب من تسجيل نقاط، رسخت الانطباع لدى العامة بأن "الجرار" صُنع ليسير بسرعته المُتحكم فيها من دون توقف، على الرغم من "استماتة" بعض قيادات "العدالة والتنمية" في دفاعها عن ما تعتقد أنه "الحق" إزاء "الظلم"، الذي أدى إلى حرمان الحزب من حقه في تشكيل تحالفاته لرئاسة بعض البلديات في المدن الكبيرة، التي تمكن الحزب من التقدم فيها. ويشعر قياديو العدالة والتنمية بالغبن جراء ما يسمونه ب"استئساد الفساد والاستبداد"، كما يشعر قيادات "التقدم والاشتراكية" بنوع من "الاحتقار" الناجم عن ما وصفوه بنقل بعض اختصاصات وزارة الإعلام، عل عهد خالد الناصري، عضو الديوان السياسي للحزب، إلى مقر "الأصالة والعاصرة"، بعد تبني حزب "الجرار" لما يسمى ب"مبادرة الحوار الوطني حول الصحافة داخل المؤسسة التشريعية"، في التفاف على المشروع الذي يقوده حزب الوزير في هذا القطاع. أما حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي فقد أخذ منهما اليأس مأخذا وجلعهما ينبريان للدفاع عن "الأصول والضوابط" التي يتعين إقرارها لتكريس العمل بالمنهجية الديمقراطية، على الرغم من اختلافهما في التوافق على الصيغة المثلى لتحقيق هذا المطلب، في إطار "الكتلة الديمقراطية"، عندما تقدم "الاتحاد الاشتراكي" منفردا بمذكرة تتضمن أهم الإصلاحات التي يرى ضرورة إجرائها في المجال الدستوري في 8 ماي 2009. أما "أحزاب اليمين" فقد كانت في متناول "الجرار"، الذي عمد إلى تطويع قياداتها في الاتجاه الذي يريده، تارة بالاندماج الكلي وطورا بالتحالف، لا يثنيه شيء عن ذلك، إلا ما رشح من تقارير عن "تمرد" مُحتمل للرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للأحرار مصطفى المنصوري، أدى ثمنه غاليا بفقدانه لمنصبيه في رئاسة البرلمان ورئاسة الحزب لصالح صلاح الدين مزوار، وزير المالية السابق وعضو "حركة لكل الديمقراطيين" ( !!!). وفي هذه الظروف، لم يكن أكثر المتفائلين ليتوقعوا نهاية دراماتيكية لهذا الحزب المسنود من قوى سياسية ومالية مُعتبرة، أدت به رياح التغيير، التي عصفت ببعض الأنظمة الشمولية في تونس ومصر وليبيا واليمين، إلى احتلال المرتبة الرابعة في ترتيب الأحزاب بعد انتخابات 25 نوفمبر 2011، ليسقط في يده مشروع "التحالف الديمقراطي"، الذي كان سيقود صلاح الدين مزوار، في ظروف أخرى، إلى قيادة التحالف الحكومي. وقد تبين للمتتبعين، بعد رفع الشباب للشعارات المطالبة برحيل الحزب وأبرز قياداته، إن ذلك سيقود "البام" إلى مراجعة حساباته والإسراع بتصحيح الوضعية التي وجد نفسه فيها، مُتهما بمحاكاة نموذج "التجمع الدستوري الديمقراطي" في تونس أو "الحزب الوطني" في مصر، وهما نموذجين متقاربين، حكمت الأقدار باجتثاثهما بعد انتصار ثورات الشباب في هذين البلدين. ومع ذلك وجدنا من يعتقد، بعد تحليله للأوضاع في البلاد والتحديات المطروحة عليها، إن "الأطروحات التي جاء بها منظروا حزب الأصالة والمعاصرة ما لا زالت تشكل إجابات مناسبة"، على الرغم من المخاض، الذي تعيشه البلاد، في ظل وضعية الانتقال وإصرار الشباب على المحافظة على توهج مطالبهم بالإصلاح، الذي يجب، في نظرهم "أن يبلغ مداه بإقرار نموذج الملكية البرلمانية"، على غرار الديمقراطيات الكبرى في العالم" وعد الوقوف عند مستوى "أنصاف الحلول". ولذلك فقد سمعنا الناطق الرسمي للحزب يقول في نقده الموضوعي والذاتي لتجربة حزب "الأصالة والمعاصرة"، الذي نشره موقع "لكم" يوم 15 ماي 2011 إنه" أصبح يتداول ما بيننا أفكار من نوع (أننا لن نخلق السياسة من عدم) وأن بلدانا أخرى سبقتنا وما علينا سوى أن نغرف من معينها وأن لا حاجة بنا لتأطير...الخ متناسين أن إحدى معيقات التحول الديمقراطي بمعناه التاريخي في بلادنا تكمن بالضبط في الخصاص المسجل على مستوى تجذر الثقافة الديمقراطية في تربتنا، وفي ضعف الأدوات الحزبية المرصودة لتجاوز هذا الخصاص عبر التجربة الميدانية ذاتها". وقد استدرك صلاح الوديع قائلا: "حينما سألني عضو من المكتب عن رأيي في شباب 20 فبراير أجبته على التو: لا شك أن فيهم شبابا شعر بالخذلان بعد إطفائنا لشعلة (حركة لكل الديمقراطيين) والعديد منهم، ممن يستعصون على الاحتواء السياسوي، لا شك له ملامح اليافع الذي أشحنا عنه بوجهنا لحسابات الانتخابات". ومن منطلق هذا الترتيب في الأولويات، فُهم من أن الخلفية الثورية وتراكم التجربة لدى بعض مناضلي اليسار من قادة "البام"، لم تسعفهم في تطوير مقاربة أكثر تقدما مما يطرحه الشارع، الذي يبدو أنه مقتنعا بإرادة الإصلاح لدى ملك البلاد، في الوقت الذي تتحرك فيه جيوب المقاومة، بقوة، لعرقلة كل مشروع يمضي قدما بالبلاد إلى الاستقرار. واليوم سيكون الحزب أمام فرصة مراجعة المسار، إذا نجح في اعتماد قراءة صحيحة للمشهد السياسي في البلاد، تأخذ بعين الاعتبار حالة المغرب ورغبة المغاربة في التغيير، التي تجلت في توصيتهم على الوثيقية الدستورية بنسبة لا تقبل الجدل في فاتح يوليوز 2011 وتصويت الكثير منهم على حزب "العدالة والتنمية"، طلبا للإصلاح، وليس فقط بواجب الانتماء للحزب والانضباط لتنظيماته. ولذلك يرى المراقبون أنه لن يكون سهلا على الحزب الحسم في اختياراته المذهبية، إذا لم يعزز نقط الالتقاء بين تيار "المناضلين الحداثيين المتنورين" وتيار "المناضلين المحافظين"، على ميثاق مبادئي، يأخذ بعين الاعتبار ما ينتظره العامة من مواقف عن الديمقراطية والحكامة في تدبير الشأن العام ومكافحة الفساد وتسيير الثروات ومعالجة البطالة والفقر ومسالة الضرائب وغيرها من الأحكام، التي سيبني عليها المتتبعون موقفهم من تصنيف الحزب في هذا المعسكر أو ذاك. أما مستقبل الحزب فإنه سيتحدد من مستوى الجدية في احترام المنتسبين لأصول الديمقراطية الداخلية والقطع مع المُحاصصة والتوافقات وفرض احترام النظام الداخلي وانتخاب القيادة وفق شروط مُقنعة، حتى لا تتكرس الصورة النمطية ويتعزز الانطباع من أن الأمور متحكم فيها ويتم توجيهها من قبل النافذين، فيصبح بذلك من الصعب إقناع الناس بمشروعية القيادة وبأحقيتها في تدبير شؤون الحزب في المرحلة المقبلة.