كنت من بين الذين توقعوا فوز حزب "العدالة والتنمية" المغربي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في الوقت الذي راهن الكثيرون على استقرار المعادلة السياسية التي تمخضت عن تجربة التناوب التوافقي منذ سنة 1997. وكنت قد التقيت في الصيف الماضي بأحد أبرز قيادات الحزب "الإسلامي" الفائز الذي تناولت معه مطولاً المشهد الجديد بعد الإصلاحات الدستورية الأخيرة التي شكلت "ثورة هادئة" في المغرب. وقد أكدت لي الشخصية القيادية المذكورة أن التيار الإسلامي المعتدل قد راجع أطروحاته الفكرية والسياسية في اتجاهات أربعة هي: أولًا: تبني واستثمار مرجعية "إمارة المؤمنين" التي تميز النظام السياسي المغربي وتقوم عليها شرعية الدولة، بعد أن كان الموقف الرسمي للحركة هو أن إمارة المؤمنين منصب ديني – سياسي مرتبط بفكرة "الدولة الإسلامية الشاملة" كما بلورتها أدبيات مدرسة "الإخوان المسلمين" المصرية بامتداداتها المعروفة في الساحة العربية. ولقد دافع الإسلاميون المغاربة في المشاورات التي عقدت بشأن الدستور الجديد عن إمارة المؤمنين واعتبروا أنها تكريس للهوية الإسلامية للدولة وتعبير عن الخصوصية المغربية، مما يشكل تحولًا نوعياً في مواقف هذا التيار الذي كان أحد رموزه العلمية (أحمد الريسوني) قد طالب في سنة 2003 باستبدال إمارة المؤمنين بهيئة فقهية للإفتاء. ولا شك أن هذا التحول قرب الحزب الإسلامي من المؤسسة الملكية وفصل بينه جذرياً والتيار الإسلامي الراديكالي (جماعة العدل والإحسان) المناهض للملكية. ثانياً: قبول فكرة الدولة المدنية المستندة إلى شرعية الاختيار التعاقدي الحر بدل الدولة العقدية بالمفهوم الضيق الذي تتشبث به المجموعات السلفية المتطرفة. من هذا المنظور، تم قبول الدستور بكل بنوده ومواده التي تكرس الحريات العامة ومدونة حقوق الإنسان دون تحفظ، مما فسح المجال أمام مبدأ الائتلاف مع كل القوى السياسية الوطنية بما فيها التشكيلات "اليسارية"، التي طالما اصطدمت مع التيار الإسلامي في السبعينيات والثمانينيات (خصوصاً بعد اغتيال الزعيم الاشتراكي البارز عمر بن جلون سنة 1975 الذي اتهمت به عناصر من الشبيبة الإسلامية). ثالثاً: مراجعة استراتيجيات وأولويات الحركة بالتحرر من المقاربة الدعوية الأخلاقوية الضيقة (مكافحة الفساد الأخلاقي والتفسخ الاجتماعي) واعتماد خطاب سياسي مرن وبرامج اجتماعية تتعلق بحياة الناس ومشاكلهم اليومية، باعتبار أن الحزب ليس طريقة صوفية أو جمعية دعوية وإن كانت مرجعيته الحضارية والقيمية دينية لا علمانية. رابعاً:الانفتاح على الآخر وقبول منطق المصالح الاستراتيجية وقواعد العلاقات الدولية خارج منطق التمترس العقدي والديني، مع الاحتفاظ بمرجعية التحرر الوطني والإرادة المستقلة بصفة واقعية عملية. لا شك أن هذا الخطاب هو الذي كان فعالًا ناجعاً في تبوؤ الحزب هذه المكانة المرموقة (107 مقاعد برلمانية بدل 42 في انتخابات 2002) في الوقت الذي تراجعت بقوة الأحزاب العريقة المتولدة عن الحركة الوطنية والأحزاب الليبرالية واليمينية التي تتشكل أساساً من النخب التي هيمنت في العقود السابقة على الإدارة العمومية (يطلق عليها أحياناً عبارة الأحزاب الإدارية). وإذا كان فوز الإسلاميين المغاربة في الانتخابات البرلمانية قد زامن المكاسب التي حققتها "حركة النهضة" في تونس وحزب "الحرية والعدالة"(الإخوان المسلمون) في مصر، فإن الأمر يتعلق في ما وراء هذا التزامن بظرفية مغايرة ومعادلة مختلفة لأسباب ثلاثة جوهرية : أولاً:أن الحزب الإسلامي المغربي، وإن حقق اختراقاً كبيراً في المشهد السياسي، إلا أن هذا الاختراق تم في سياق حركة سياسية نشطة وضمن ثوابت كبرى أصبحت محددة وراسخة مهما تغيرت موازين القوة داخل هذه المعادلة. أما في الحالتين المصرية والتونسية، فقد أفضت الثورة الى تكريس قطيعة كاملة داخل الحقل السياسي استفادت منها القوى التي كانت مقصية من دائرة الشرعية في الوقت الذي انهارت التشكيلات التي كان يتألف منها المجال السياسي بما فيها أحزاب المعارضة.وغني عن البيان أن حزب "العدالة والتنمية" وإن لم يشارك في تركيبة الحكم من قبل، إلا أنه اندمج في دائرة الشرعية منذ خمس عشرة سنة وشارك في عدة استحقاقات انتخابية واضطلع بتسيير مجالس بلدية وحضرية. ثانياً: على الرغم من أن التيار الإسلامي المغربي ينتمي في خلفيته الفكرية والإيديولوجية البعيدة الى المدرسة "الإخوانية" المصرية، إلا أنه تحول بعد اندماج جماعة "الإصلاح والتوحيد" في الحركة الشعبية التي أسسها السياسي المخضرم "الدكتور الخطيب" إلى نمط من التكتل الواسع الذي يحمل بصمات الخصوصية المغربية المحلية. من هذا المنظور، نلمس القرابة الفكرية بين حزب "العدالة والتنمية" و"حزب الاستقلال" الذي أسسه العالم الإصلاحي الكبير "علال الفاسي"، ما من شأنه تسهيل تحالف الحزبين في التركيبة الحكومية الجديدة. ولا شك أن هذا العامل مكن من تخفيف حدة التجاذب الإيديولوجي بين التيارين الإسلامي والعلماني، على عكس ما جرى في الساحتين التونسية والمصرية. ثالثاً: بينت الانتخابات الأخيرة المنظمة في البلدان الأفريقية الشمالية الثلاثة أن التيار الإسلامي وإنْ حقق مكاسب بارزة في الاستحقاقات المذكورة، إلا أنه فقد طابعه الأحادي الشمولي ولم يعد بإمكان أي من مكوناته المتعددة احتكار المشروعية الإسلامية. ظهرت هذه المعادلة بوضوح في مصر التي قامت فيها عدة أحزاب إسلامية واشتد فيها التجاذب بين التيارين الإخواني والسلفي، كما ظهر التصادم نفسه بوتيرة أقل ولكن بحدة متزايدة في تونس. وإذا كان التيار الإسلامي المغربي يتسم بالتنوع ذاته (التصادم الجلي بين حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان المحظورة)، إلا أن الجماعات السلفية ضعيفة وهامشية في المغرب، بل إن مقولة "السلفية" في الإطار المرجعي المغربي تحمل دلالة التجديد والإصلاح والتحديث، على عكس الدلالة المألوفة في السياق المشرقي. لا يشكل أذن فوز حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات الأخيرة قطيعة جذرية في المشهد السياسي المغربي، ولا هو مظهر لتغير شكل النظام السياسي، بل هو تعبير عن ديناميكية الديمقراطية المغربية بعد الإصلاحات الدستورية الأخيرة التي حققت نقلة نوعية في الحياة السياسية.