الظاهرة التي استرعت الانتباه بعد ثورات تونس وليبيا ومصر هي ظاهرة البروز الواضح للحركات الإسلامية، ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك حضور للإسلاميين في الساحة العربية، ذلك أن الحضور الإسلامي كان دائما موجودا، غير أن الأنظمة الشمولية ظلت تحاصره في إطار الممارسات العقدية من دون السماح له بالتوسع خارج هذا الإطار، ولا شك أن الموقف الدولي الذي كان معاديا للحركات الإسلامية لعب دورا كبيرا في تحجيم الدور الإسلامي، خاصة بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وهي الاعتداءات التي جعلت الولاياتالمتحدة تتبنى سياسات واضحة في معاداة الإسلاميين ووصفهم بالتطرف، وربما كان ذلك إلى حد كبير بسبب انحياز الولاياتالمتحدة لأنظمة الحكم القائمة. وبالتالي التزمت سياسة عدو صديقي عدوي، لكن الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول الغربية بدأت تفيق الآن على سياسة جديدة بعد ربيع الثورات العربية، إذ رأينا فرنسا تمد يدها لحزب النهضة في تونس، وكذلك فعلت الولاياتالمتحدة، وأظهر الغرب استعداده للتعاون مع الإسلاميين في حال وصولهم إلى السلطة في بعض بلدان العالم العربي، وبدا وكأن الغرب أفاق على حقيقة جديدة باعترافه أن الاسلام يشكل واقعا حقيقيا في العالم العربي لا يمكن تجاهله في أي مرحلة من المراحل، وبالتالي فإن أي تفكير يخص العالم العربي يجب أن ينطلق من الواقع الثقافي للعالم العربي وليس من تصورات غربية بعيدة عن الثقافة المؤثرة في هذا العالم، وبالتالي فقد بدأ العالم الغربي يفتح الكثير من مجالات الحوار التي يحاول من خلالها أن يسلط الضوء على ظاهرة الإسلاميين في العالم العربي، ونظرا لأهمية المطروح أود أن أتوقف عند الندوة التي أقامها مركز دراسات الإسلام في واشنطن، التي شارك فيها عدد من المفكرين من العالم العربي والولاياتالمتحدة بهدف الإجابة على سؤال أساسي هو هل بالإمكان إقامة ديمقراطية عربية من دون مشاركة الإسلاميين في بنائها؟ يقول منظمو الندوة إن السؤال تبرره التحولات الحادثة في العالم العربي بعد فترة طويلة من تخويف الأنظمة من سلطة الإسلاميين، ونرى في البداية إجابة الدكتور نيل هيكس من منظمة حقوق الإنسان الذي قال إن الديمقراطية في العالم العربي لا يمكنها أن تكون بدون مشاركة الإسلاميين، مشيرا إلى أن الحركات الإسلامية أصبحت في مجملها حركات شعبية لا يمكنها أن تنفصل عن الحراك السائد في العالم العربي، ولكنه حذر في الوقت ذاته إلى أنه داخل الحركات الإسلامية فإن هناك عناصر لا تتعاطف مع الأقليات الدينية الأخرى، وبالتالي يصعب التعايش معها في إطار نظام ديمقراطي يرعى الحقوق المعترف بها. وذلك ما يجعل الولاياتالمتحدة قلقة بشأن شكوك تساورها من إمكان ألا يتحول المشهد العربي إلى مشهد ديمقراطي حقيقي، ولكنه يحمل الولاياتالمتحدة بعض المسؤولية، إذ هو يقول إنها لم تقم بدور إيجابي خلال فترة حكم الرئيس بوش، من أجل وضع بيئة مناسبة للديمقراطية العربية، ويرى هيكس أن الضمانات المطلوبة من أجل إقامة النظام الديمقراطي المرتقب تكمن في إعطاء ضمان لحرية الصحافة والإذاعة والنشر، وأن يكون الأساس الذي تقوم عليه الدولة هو المؤسسات مع توافر نظام قضائي مستقل يوفر الحقوق الكاملة لسائر المواطنين إلى جانب خدمة مدنية قوية وحرية كاملة تعمل من خلالها مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم في العادة بدور المحاماة عن سائر المواطنين. ويرى هيكس أنه من الضرورة تغيير الاتجاه القديم الذي كان سائدا في الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية، واستبداله باتجاه جديد يساعد على نمو الديمقراطية الوليدة حتى لو كان القائمون عليها من الإسلاميين. ومن جانب آخر شخص الدكتور عمر حمزاوي كبير الباحثين في مؤسسة كارنجي الوضع بقوله، إن الأسباب التي عطلت مسيرة الديمقراطية في العالم العربي، يمكن إيجازها في ثلاثة مستويات، وهي أولا وجود أحزاب تحتكر السلطة لنفسها في ظل النظام الشمولي، وبينما تسيطر هذه الأحزاب على السلطة والموارد فهي تحول دون مشاركة الآخرين معها في العمل السياسي، وهي من ناحية ثانية لا تعتمد في إدارتها للبلاد على المنطق والعدل، بل تعتمد أساسا على قوة الأجهزة الأمنية وقدرتها على قمع الآخرين، ومن ناحية ثالثة تروج هذه الأحزاب إلى ثقافة تختلف اختلافا أساسيا مع مبادئ الديمقراطية، ولكن هل بالإمكان تحقيق الديمقراطية وتجاوز كل الصعاب بمجرد مشاركة الإسلاميين في السلطة؟ هنا يتوقف الدكتور حمزاوي ليقول إن الحركات الإسلامية التي أتيحت لها فرصة المشاركة في الكويت واليمن والمغرب والأردن لم تشكل تحديا لشرعية أنظمة الحكم القائمة، وقد عملت على توسيع شرعية أنظمة الحكم لإتاحة أكبر فرصة للمشاركين، وهناك أحزاب سياسية تشارك في العمل السياسي من دون أن يكون لها وضع سياسي مشروع كشأن حركة الإخوان المسلمين في مصر وجبهة الإنقاذ في الجزائر، وعلى الرغم من أن هذه الحركات لا تقوم بدور سياسي في السلطة فهي قادرة على الكثير من الضغط لضبط العمل السياسي على المستوى الاجتماعي. وهناك من وجهة نظره حركات إسلامية تقوم بعمل سياسي ليس بكونها مجرد أحزاب سياسية بل بكونها حركات مقاومة، ويأتي في مقدم هذه الحركات حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان وغيرها، ويرى أن هذه الحركات لا تركز في هذه المرحلة على الخطاب السياسي الخالص، بل تركز على خطاب المقاومة وجعل القضية الفلسطينية في مركز اهتمامها وكذلك الوضع الأمريكي في العراق، ويرى أن هذه القوى الإسلامية لا تفصل بين مفاهيم الديمقراطية ومفاهيم التحرر العريضة عامة، وذلك ما يوجد عقبة بين الإسلاميين والغربيين الذين ينطلقون من معتقدات خاصة ويريدون أن يستوعبوا الحركات الإسلامية بشرط أن تقدم بعض التنازلات في المبادئ التي يؤمنون بها. ويخلص الدكتور حمزاوي إلى أن العالم العربي بصفة عامة ليس مقبلا على عهد ديمقراطي سواء بالإسلاميين أو بغيرهم. وإذا توقفنا عند سائر الأدبيات التي تحاول معالجة موقف الإسلاميين في المرحلة المقبلة وجدنا أنها تركز فقط على أسلوب الحكم، ومن الذي يشارك فيه، وذلك خطأ في التصور والرؤية، لأن المشكلة في العالم العربي لا تنحصر في الوقت الحاضر في من يحكم، إذ الأمر يتجاوز ذلك إلى كيف يكون نظام الحكم، ولكن كيفية نظام الحكم لا تكون إلا إذا تأسس النظام أولا، وقد رأينا من قبل بعض القادة في ليبيا يقولون إنهم يريدون إقامة دولة مدنية أساسها الشريعة الإسلامية، وهنا يتوقف الكثيرون طلبا لمزيد من الشرح عن الكيفية التي تتوافق فيها الدولة المدنية مع قوانين الشريعة، وهذا الوضع تكرر في تونس وفي مصر وغيرها، والمهم في كل ذلك ليس أن يعرض الزعماء مجرد مواقف سياسية يستجدون بها آراء الجماهير، لأن ما هو مطلوب في هذه المسألة هو إدراك أن الوضع في العالم العربي يختلف عنه في كثير من أجزاء العالم، ذلك أن الإسلام هو جوهر في حياة الجماهير العربية وهو معها كمكون لثقافة، وبالتالي يصعب أن تجعل العربي يعيش في أي مجتمع لا يتقيد بأصول الثقافة الإسلامية، وقد رأينا خلال الفترة الاستعمارية في كثير من بلاد العالم العربي أن المستعمرين أقاموا ازدواجية بين القوانين الشرعية والقوانين المدنية، وبالتالي لم يحدث التصادم بين الجانبين، غير أن ما هو مطلوب في هذه المرحلة أكبر من ذلك، وهو البحث عن إمكان إقامة مجتمعات تلتزم بأصول ثقافتها وتستوعبها في إطار كيانها الاجتماعي، وذلك بكل تأكيد يحتاج إلى مزيد من النظر المتأمل والابتعاد عن الصيغ الجاهزة، سواء تلك التي توفرها المجتمعات الغربية أو القافزون على حدود المنطق وواقع الحال.