عندما أراد الحسن الثاني عقد أول شراكة بين «المخزن» والمعارضة التقليدية، اختار عبد الرحمن اليوسفي رئيسا للوزراء: أحد رفاق المهدي بن بركة، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب، أحد السجناء الكبار، أحد المنفيين الكبار. أدرك الملك الفائق البراعة، الذي يلاعب السياسة كما يلاعب مرامي «الغولف»، أن العقد يجب أن يبنى مع تعدد الألوان في طيف المشروع القومي الذي يملأ بلدان المغرب. ونتج عن ذلك إحدى أفضل مراحل السياسة في الرباط: أمير المؤمنين والمثقف الذي لم يعرف كيف يرتدي ثياب رئيس الوزراء، محتفظا باللون البني الملازم لأضداد الأناقة. سوف يكون العقد السياسي الجديد، بين محمد السادس وزعيم «الإخوان». السلام على الزمن القومي والمشروع القومي. السلام على الذين قادوا حركات الاستقلال ودخلوا السجون البريطانية والفرنسية، وتشردوا في المنافي بين الفاقة والعوز، تحت أسماء مثل بورقيبة وبن بللا وبن خيضر. وسائر الأبوات والأبناء. ليبيا وتونس والمغرب تودع عصر الزمن العربي، ومصر بين بين، و«الإخوان» قادمون، برفقة «بلال إسطنبول» أو مؤذنها ذات يوم، رجب طيب أردوغان، ومعه «سوسلوف» العثمانية الحديثة، أحمد داود أوغلو. هل هو انتصار «الإخوان» بسائر ألوان طيفهم، أم هي هزيمة المشروع القومي؟ يا للسؤال البائخ! ألم تر إلى أن أبطال الجزائر قدموا مليون شهيد من أجل التحرر من فرنسا لكي يفرضوا على شعبهم نظاما بلا حريات؟ ألم تر إلى أن «القومية العربية» في ليبيا، وقعت في يد مهرج انصرف إلى «النظرية العالمية الثالثة»؟ ألم تر إلى أن العداء بين بعثي سوريا والعراق، كان في عمق العداء مع إسرائيل؟ ألم تر إلى أن القضية انتهت من اللاءات الثلاث إلى لاء واحدة، بين حماس والسلطة؟ ألم تقرأ تقرير التنمية الدولي (2002) عن حال التخلف والأمية والفقر والتعذيب الأسري والاجتماعي؟ ألم تلحظ أن الحاكم العربي تبنى مشروع سيكوتوري: أغلق البلد وابق مدى الحياة. ماذا كانت حصيلة «المشروع القومي»؟ مستوى التعليم؟ نسبة التعليم؟ نسبة الجامعات؟ نسبة التقدم؟ نسب النمو؟ مشاريع الري؟ حماية المستقبل الزراعي؟ نشر الصناعة؟ انقلابات العسكر؟ حروب العراق؟ حروب الحدود؟ التصحر السياسي في السودان؟ هل يسمح لنا أن نفاجأ بأن «الإخوان» يطلون من كل النوافذ والأبواب؟ هل هزمت المعارضة القومية في الكويت من أجل هذه المعارضة التي تقتحم البرلمان بالعصي؟ متى بدأ سقوط المشروع القومي؟ عندما لم يبدأ. عندما قرر أنه إله وليس نظاما أو دولة. عندما رأى أن الحل هو في معاملة الناس على أنهم محكومون، أفضل ما يصبون إليه عدم وضعهم في السجون. إننا لا نحصل على نتائج التصويت في اقتراعات العرب، على حصاد نصف قرن بائس، هللنا فيه للهزائم ورقصنا للحروب الأهلية وصفقنا لمعادلة معمر أبو منيار: ما دام أنه راع فلا بد أنه أيضا نبي.