سجل التاريخ أن منطقة الحماية الإسبانية سبقت باقي المغرب في الانضمام إلى الجامعة العربية وذلك عبر القناة الثقافية. فبمبادرة من الأمين العام الأول لتلك المنظمة عبد الرحمان عزام باشا، وبفضل رعاية خليفة السلطان بالمنطقة مولاي الحسن بن المهدي، أمكن تأمين تمثيل المغرب في اللجنة الثقافية التي كان يرأسها أحمد أمين، وغيرها من دواليب العمل في المنظمة. وربما يقتضي هذا توطئة. كان م. الحسن بن المهدي قد تولي كرسي الخلافة على إثر وفاة والده مولاي المهدي بن اسماعيل ابن السلطان محمد الرابع، وهو أول خليفة سلطاني في عهد الحماية. وكان قد توفي بسبتة في 24 أكتوبر 1923، ولكن تنصيب خلفه لم يتم إلا في 1925. وظل المنصب شاغرا لمدة عامين. ذلك أن الإسبانيين رغبوا في اغتنام تلك الفرصة لإحداث تعديل في مسطرة تعيين الخلف، في سياق تبرمهم المستمر من الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه بالمغرب بالمقارنة مع فرنسا التي رتبت نظام الحماية وفق ما سمحت به ظروفها كدولة قوية. فحاولت إسبانيا بمناسبة شغور منصب الخليفة أن تنفرد هي بتعيين الخليفة، خلافا للفصل الأول من معاهدتها مع فرنسا، أو في حالة اتباع المسطرة المقررة أن تعين الشخص الذي ترغب فيه. وكانت معاهدة نوفمبر 1912 التي فوتت بموجبها فرنسا إلى إسبانيا منطقة نفوذ في أجزاء من المغرب بالشمال والجنوب، تنص على أن تقدم إسبانيا مرشحين يعين السلطان ، أي بموافقة فرنسا، واحدا منهما، وهذا ما كانت إسبانيا تكرهه. وقد راودت حكومة بريمو دي ريفيرا القائمة إذ ذاك، رغبة جامحة في إحداث تغيير في المسطرة، يمكن أن يؤدي إلى تلافي المرور بالمسلك الفرنسي، و لو أدى الأمر إلى الابتعاد عن الشجرة العلوية. ومن جديد كانت معرضة لمساومة أخرى مرهقة مع شريكها الدود القائد الجبلي الشهير مولاي أحمد الريسوني، الذي كان وقتئذ في هدنة مع الإسبان، وكان تطلع إلى احتلال منصب الخلافة سنة 1912، ومن جديد اتجهت الأنظار إليه، ولكن بسبب حالته المرضية، وقع التفكير في ابنه خالد. و بعد أن استمر المنصب شاغرا لمدة عامين كانت الأوضاع بسبب حرب الريف قد خلقت حالة جعلت إسبانيا تحس بحاجتها إلى الاستنجاد عسكريا وماديا بفرنسا للإجهاز على الحركة الجهادية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي. وهذا ما أدى بها إلى الإذعان إلى ما تلزمها به معاهدة 1912. وساعد على ذلك أن الريسوني كان قد انتهى أمره، بانقلاب المجاهدين في جبالة عليه، وانضمامهم إلى الثورة الريفية، حيث تم نقله أسيرا إلى تماسينت. وهكذا تم تنصيب مولاي الحسن بن المهدي خليفة في 8 نوفمبر 1925، بسنتين قبل تنصيب سيدي محمد بن يوسف ملكا، وهو الذي كان يكبره بسنتين، إذ كان مولاي الحسن بن المهدي قد ولد بفاس في فاتح جمادى الثانية 1329 الموافق ل 30 مايو 1911، فتولى منصب الخلافة وعمره 14 سنة. ويقول المرحوم محمد الخطيب، عضو مجلس الرئاسة لحزب الاستقلال، في مؤلفه عن تاريخ الحركة الوطنية بالشمال، إن مزايا الأمير الحسن بن المهدي ترجع إلى شمائله الشخصية وقوامها النبل والذكاء والإقدام، وإلى تكوينه الأول على يد الأستاذ محمد داود والفقيه الزواق، وإلى الجو الوطني الذي تشبع به، وجعل له علاقات صداقة مع قرين له كان له شأن هو عبد الخالق الطريس. ويعزو الخطيب لهذه العوامل التفاهم الكبير بين مولاي الحسن والحركة الوطنية في كل مراحل العمل من أجل الاستقلال، وبالذات ما يخص إيفاد وفد يمثل المنطقة الخليفية في الجامعة العربية، وهو موضوعنا. وقد كان التفاهم كاملا مع الطريس فيما يتعلق بتركيب الوفد، أو بحقيقة المهمة التي عهد إليه بها. يتعلق الأمر بوفد ضم نشطاء بارزين في حزب الإصلاح الوطني بالشمال، عهد إليه بتمثيل المنطقة الخليفية في أعمال اللجنة الثقافية للجامعة العربية، بمقتضى قرار اتخذته الجامعة في ديسمبر 1946، تتويجا لمبادرة بدأت برسالة من عزام إلى الحكومة الخليفية بالمغرب بواسطة إسبانيا بطبيعة الحال. ويظهر استنادا إلى وثائق إسبانية أصبحت الآن في المتناول أن المبادرة كانت من عبد الرحمان عزام الأمين العام الأول للجامعة العربية، وذلك في بداية العهد بالجامعة. فهناك مذكرة وجهتها البعثة الإسبانية بالقاهرة بتاريخ 28 يونيو 1945 إلى المصالح المركزية للخارجية، بمدريد أي بعد ثلاثة شهور من تأسيس المنظمة، يخبر فيها س. دي ميراندا الوزير المفوض، بأنه تلقى دعوة من رئيس التشريفات بالخارجية المصرية، حيث كان المقر المؤقت للجامعة إلى لقاء مع الأمين العام، وحينما تم اللقاء تبين أن الموضوع هو " توجيه الدعوة إلى المنطقة الإسبانية بالمغرب، للمشاركة في أعمال اللجنة الثقافية للجامعة ". وقال الأمين العام لمخاطبه الإسباني إن أعمال المنظمة مقتصرة على الدول العربية الأعضاء في مجلس الجامعة، أي الدول المستقلة، لكن الباب مفتوح أمام باقي البلاد العربية للمشاركة في النشاط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. وفي هذا الإطار فإن الجامعة ترغب في أن يشارك مغاربة المنطقة الإسبانية في هذا الجانب. وإذا ما وافقت الحكومة الإسبانية على هذا الاقتراح يمكن للجامعة أن توجه الدعوة رسميا بالطريقة التي تراها الحكومة الإسبانية مناسبة، وتقوم هي بتعيين الأشخاص الذين يحضرون الاجتماع. وأوضح أن اللجان المعنية ليس لها طابع سياسي، ولا تتخذ قرارات، بل تصدر توصيات ترفعها إلى الحكومات التي هي حرة في أن تعمل بها وفق ما تراه. وجاء في تقرير الوزير المفوض الإسباني إن الحديث كان عائما وفق الطريقة الشرقية، ووصف عزام باشا بأنه رجل متحمس. والكلمة التي استعملها هي إيكسالطادو وهي تقرب من معنى الاهتياج. وعقب بأنه لا يستبعد أن تتحول الفكرة إلى طور سياسي، ولكنه يرى مسايرتها لعدة أسباب. وأعقبت هذا التقرير مذكرات صادرة عن البعثة الإسبانية بالقاهرة، وعن قسم أميركا في الخارجية بمدريد، والمفوضية السامية بتطوان، دارت كلها حول أبعاد المبادرة العربية، وبالمناسبة مجموع السياسة العربية لإسبانيا. فقد طرحت مثلا مسألة الاعتراف باستقلال سوريا ولبنان. وتوجد هذه المراسلات في سجل غزير لكنها لا تضيف إلى معلوماتنا شيئا جوهريا باستثناء ما يتعلق بمصدر المبادرة وتاريخها، إذا أخذنا في الاعتبار المراسلات التي نشرها د. امحمد بن عبود في كتابه المفصل حول مكتب المغرب العربي. وكانت المصالح التابعة للخنرال باريلا بتطوان تعارض إرسال الوفد. كما أن المفوض السامي نفسه وكبير مستشاريه، وهو طوماس غرثية فيغيراس، كان ضد الوفد وحتى ضد اعتراف إسبانيا باستقلال سوريا ولبنان. ولكن بعثة القاهرة كانت ترى أن المبادرة لن تضر إن لن يكن من نتائجها العملية أن الجامعة العربية " ستعترف عمليا بالمنطقة الإسبانية "، كما قالت البعثة في مذكرة بتاريخ 21 نوفمبر 1945. وقال الوزير المفوض إن المهم هو أن يكون تركيب الوفد باعثا على الاطمئنان ويضم أشخاصا من أهل الثقة. ونصحت البعثة بأن تتم مفاتحة فرنسا، ويمكن إقناعها بأن الوفد قد ينفع في صد أعمال مضرة. ونعلم الآن بعد نشر " على رأس الثمانين " أن الإدارة الإسبانية بتطوان قد فاتحت الأستاذ داود ليتولى رئاسة الوفد، إسوة بسابقة توجهه إلى مصر في سياق الاطلاع على المناهج التعليمية. ولكنه امتنع عن ركوب المغامرة. وفي الكتاب الذي نشرته الأستاذة حسناء داود أن الخليفة هو الذي كان قد اقترح الأستاذ بن عبود. وبتنسيق بين حزب الإصلاح الوطني والخليفة، تشكل الوفد من مناضلين بالحزب هما الشهيد امحمد بن عبود ومحمد الفاسي الحلفاوي، ومن مسؤول إداري من جهاز التعليم الرسمي هو محمد عبد السلام بن عبود. وعلى عكس ما وقع التخطيط له أصبح الوفد بعثة دائمة، بدلا من أن يشارك في اجتماع واحد تعقده اللجنة. وفي نفس الوقت أخذ ذلك الوفد يقوم بأدوار سياسية ولم يبق فقط وفدا ثقافيا، وذلك بتواطؤ قوي من عبد الرحمان عزام الأمين العام للجامعة الذي احتضن المؤتمر التأسيسي للمغرب العربي. ولم يقض العضو الثالث ( بن عبود الآخر) إلا وقتا قصيرا بالقاهرة وعاد إلى وظيفه بتطوان. وحينما طلبت إسبانيا رسميا من الجامعة العربية سحب ذلك الوفد تم الرد عليها بأن الهيئات المقررة في الجامعة قد سجلت الوفد معتمدا في جميع اللجان، ويلزم اتباع مسطرة خاصة لإلغاء ذلك القرار، وبهذا يكون هذا الموقف من القرارات النادرة التي لم تتراجع عنها الجامعة. وظل الخليفة السلطاني م الحسن بن المهدي يرعى الوفد المذكور ماديا، رغم منع حزب الإصلاح في المنطقة على إثر حوادث فبراير 1948 الدامية. بل إن مساعده بن البشير الهسكوري أخبر الوطنيين بأن الخليفة مهتم بتأمين حضور الوطنيين في أميركا، كما يروي م م الخطيب. وكان لذلك الوفد الدائم وضع فريد، إذ أن الجامعة العربية لا تضم في دواليبها إلا الدول المستقلة، في حين كان وفد المغرب الخليفي هو الوحيد الذي يمثل بلدا أو جزءا من بلد هو غير مستقل. وسرعانما اكتسب الوفد إمكانات للتحرك السياسي ضد سياسة إسبانيا خصوصا ومن أجل القضية المغربية عموما. وكان ذلك بفضل الحركية الفائقة للمسؤول عنه، الشهيد امحمد بن عبود الذي اشتهر كما شهد بذلك مجايلوه بسهولة إقامة علاقات اجتماعية مع كبار نجوم السياسة المصرية، بمن فيهم الملك فاروق الذي كان يدعوه إلى المشاركة معه في خرجات القنص، كما روى لي صديقه ع. ك. غلاب. وروى يوسف الرويسي التونسي أن بن عبود هو الذي قام بالاتصال بالديوان الملكي المصري بعد إقناع الأمير الخطابي بصواب لجوئه إلى مصر، وذلك أن بن عبود هو الذي حصل على موافقة الملك فاروق على اللجوء، كما أن الملك مجاملة للمغاربة و تعبيرا عن حسن الاستعداد استقبل الأمير الخطابي شخصيا وأواه في قصره. ومكنت المشاركة في أعمال اللجنة الثقافية للجامعة بن عبود من اكتساب خبرة بكواليس العمل السياسي العربي فضلا عن تأمين مساهمة المغرب في مناقشة كبريات القضايا الثقافية المطروحة في العالم العربي. ومن ذلك الموقع تمكن من مواجهة عدد من المعاكسات. فقد كان لحزب فرنسا كلمته في بعض الأوساط العربية. فقد اعترض أحد الرهبان اللبنانيين أثناء انعقاد اللجنة الثقافية في دورة لها ببيروت على المشاركة الرسمية للوفد الخليفي في أعمال اللجنة. كما أن التعاون الثقافي العربي لم يكن بديهيا بالنسبة لبعض أعضاء الوفد اللبناني كما يستفاد من تقرير وجهه بن عبود إلى رئاسة حزبه عن أعمال تلك الدورة التي شارك فيها غلاب المذكور آنفا، رغم أنه لم يكن منتميا للمغرب الخليفي، الأمر الذي يدل على التطور العملي الذي عرفته المبادرة. ومن الوثائق الإسبانية نستفيد أن المؤتمر العربي الأول للثقافة كان يتوقع مشاركات من كل أقطار شمال إفريقيا، فمن مذكرة إخبارية تتعلق بالموضوعات والشخصيات المقترحة يستفاد أنه وقع التفكير في جدولة المؤتمر كما يلي: في التربية الوطنية: أحمد باحنيني، وأحمد بلافريج، وعبد الخالق الطريس. في الجغرافيا: عبد الخالق الطريس. في التاريخ: عبد العزيز بن ادريس، وامحمد بنونة، ومحمد الفاسي. في اللغة: أحمد بن المليح، وتقي الدين الهلالي، وعبد العزيز بن ادريس. ويجهل سبب عدم إشراك هؤلاء وغيرهم من تونسوالجزائر ولا يستبعد أن يكون الفيتو الفرنسي وراء ذلك. ولم تكن المعاكسات الصادرة عن حزب فرنسا بالمشرق بجديدة على المغاربة. فقد سبقت الإشارة إلى أن صدقي باشا الذي تولى رئاسة الحكومة في مصر كان فرنسي الهوى. وحتى عقد الخمسينيات وجد في دواليب الجامعة العربية نفسها من يمالئ فرنسا. فقد روى صالح أبورقيق الذي كان من المساعدين الأقربين لعزام أن مديرا للدائرة السياسية في الجامعة يدعى عبد المنعم مصطفى كان ينكر أن تكون الجزائر شيئا آخر غير فرنسا. ( حديث له في جريدة " الصحوة " المغربية، يوليو 1995) غير أن التزام الجامعة العربية بقضايا التحرر في شمال إفريقيا، لم يتأخر. وحينما سئل بن عبود في طنجة عما إذا كانت البعثة التي يرأسها ثقافية خالصة أم سياسية، قال بشكل مبهم (أنظر جريدة " مراكش "، طنجة 9 فبراير 1948) إن البعثة تشارك في كل أعمال الجامعة العربية. وقد اتخذت الجامعة العربية قرارات في غاية الخطورة لم يعلن عنها بعد. وأن فرنساوإسبانيا سيواجهان ليس شمال افريقيا وحده بل العالم العربي أجمع. وسنح له استخدام مثل تلك اللهجة احتضان عبد الرحمان عزام لمؤتمر المغرب العربي، وأصداء إيجابية أخرى. وحتى على الصعيد الرسمي، نجد أن الخليفة كان قد انخرط في تطوير الصلات مع الجامعة العربية ودولها. إذ أصبح من المعتاد توجيه برقيات التهنئة في مناسبات سياسية، بما فيها ذكرى تأسيس الجامعة وعيد العرش في مصر، كما تلقى برقات تهنئة من فاروق بمناسبة زفافه في 1949. وكان إسبانيا تغض النظر عن ذلك رغم أن الوفد الخليفي انفلت من رقابتها، وأصبح يسبب لها الإنزعاج، إلى درجة أن الخنرال باريلا رفض أن يدفن الشهيد بن عبود في مسقط رأسه ولهذا دفن بطنجة. وكان هناك تسابق بين إسبانياوفرنسا، وأرادت مدريد أن يكون لها السبق والصدارة في العالم العربي. وكان وراء ذلك عاملان. الأول هو التقرب من الدول العربية الأعضاء في الأممالمتحدة للتخفيف من الضغط الذي كانت تلقاه في حظيرة تلك المنظمة الدولية بسبب نظامها الديكتاتوري، بالتعاون مع بعض دول أميركا اللاتينية. والثاني هو محاولة الاستفادة اقتصاديا من ربط العلاقات مع دول أخذ ت تكتسي بعض الأهمية عالميا. ونتيجة لتطلعات إسبانيا لتحسين وضعها في الأممالمتحدة وبسبب العامل الاقتصادي، ازداد التقارب الإسباني العربي بروزا مع السنين. وهذه هي الاعتبارات التي كانت تحذو مصالح الخارجية في مدريد. وكانت التقارير الصادرة عن تلك المصالح في تلك الفترة تنصح بعدم معاكسة بريطانيا وهي الحاضنة لمنظمة الجامعة العربية. وقد نصت الرسالة الجوابية في 30 نوفمبر 1945، التي وجهها الخليفة إلى الأمين العام للجامعة عزام باشا بصدد الموافقة على المشاركة في اللجنة الثقافية، على أن " القضية المغربية تجتاز ظروفا شاذة "، ولهذا فمن المرجو " أن تنال عطفكم وعطف رجالات الدولة المحترمين ". وهكذا فإن الخليفة كان يفهم أن المجال الثقافي ليس هو المجال الوحيد الذي سيتحرك فيه الوفد الذي يمثله. وفي نفس الاتجاه سارت الرسالة الخليفية الموجهة إلى الملك فاروق لتقديم وفده إلى الجامعة. وتميزت هذه الرسالة بأنها كانت مصحوبة بهدية اشتملت على لوحتين زيتيتين تمثلان مشاهد مغربية وسيف مصنوع في طليطلة. وكانت بتاريخ 31َ نوفمبر 1945. وبمجرد وصول الوفد إلى القاهرة، في 7 فبراير 1946 كان في استقباله موظفون رسميون نقلوهم فورا كما تقتضي المراسيم إلى قصر عابدين مقر الملك لتسجيل أسمائهم في سجل التشريفات، كوفد هو سيد قراره. وحينما زار الوفد مقر البعثة الإسبانية في اليوم التالي أشعرهم الوزير المفوض بأنهم ارتكبوا خطأ، لأنه كان يجب أن يصحبهم إلى قصر عابدين، بحكم أن إسبانيا هي الوصية على مغاربة منطقتها. ولكي لا تطبع العلاقات بين الوفد والبعثة بجو الاكفهرار، قبل بن عبود أن يصحبهم الوزير المفوض في زيارة ثانية إلى عابدين للتوقيع في سجل التشريفات مرة أخرى. وبذلك احتك الوفد في آن واحد بمقتضيات عقد الحماية وبقواعد البروتوكول. ولكن أعضاء الوفد كانوا بمفردهم حينما زاروا عزام باشا يوم 9 فبراير، واستقبلهم هذا في مقره المؤقت بمكتب في الخارجية المصرية. وقال لهم الأمين العام إنه تم بصعوبة إقناع إسبانيا بفكرة الوفد الثقافي، وعبر عن أمله في أن تقتدي فرنسا بذلك. وبين الوفد من جهته أنه راغب في تقديم القضية المغربية برمتها، وليس فقط التعامل مع الجانب الثقافي. وعلق عزام على ذلك بأنه سيتم حتما تناول القضية برمتها تارة باللين وتارة بالشدة، حسب الظروف. ونصح الوفد بالتزام المجاملة والاعتدال وترك السياسة العليا للجامعة. وكان الوزير المفوض الإسباني قد استثمر المبادرة من جانبه فزار شيخ الأزهر وصرح له بأن إسبانيا لا تحذوها نوايا استعمارية بل فقط تريد مساعدة المغاربة على النهوض. وحينما زار الوفد الملك فاروق كان مصحوبا بالأمين العام. وارتاح الملك فاروق لأعضاء الوفد وقال إنه فوجئ بأنهم يتكلمون بطلاقة. وفيما كان مقررا أن يستقبلهم لمدة ست دقائق طالت المقابلة نصف ساعة. ومما يذكر أن الدوائر المصرية كانت تتندر بصعوبة فك حروف الخط المغربي الذي كتبت به الوثائق التي حملها الوفد. وعلى أي حال فبهذه الخطوة كانت القضية الوطنية تقدم على مرحلة في العمل على الصعيد الدولي هي الأولى من نوعها على طريق تدويل النزاع مع الدولتين الحاميتين. وكان التنسيق مع القصر الخليفي تاما. وكانت المراسلات تتم على يد أحمد بن البشير الهسكوري الكاتب العام للقصر الخليفي وكانت الرسائل المتبادلة بينه وبين الحزب ومع الوفد صريحة، وتبين الوثائق الاستخبارتية أن الإسبان كانوا يطلعون على بعض تلك المراسلات. فقد اطلعت على رسالتين من بن عبود إلى كنون وأخرى إلى بن البشير وهما مترجمتان إلى الإسبانية. وكان الوفد قد باشر مهامه بمجرد وصوله، وأخد يشارك في الاجتماعات العامة لدواليب الجامعة، حيث قدم يوم 25 مذكرة ضافية عن الأحوال في المنطقة. كما تناولت اتصالات الوفد ومساعيه فيما بعد القضية المغربية بمجموعها. وفي وقت لاحق حرص الخليفة على أن يبلغ السلطان محمد بن يوسف جميع التقارير التي تلقاها من بن عبود. حملها إلى الرباط وزير الأحباس في الحكومة الخليفية بن موسى، وباشا القصر الكبير الرميقي، حينما كلفهما بمهمة بروتوكولية تتعلق بالإعداد لزواجه مع الأميرة للافاطمة الزهراء ، بنت السلطان السابق م عبد العزيز. وكان ذلك الزفاف قد تم في سنة 1949، وجرت احتفالات شعبية حافلة بالمناسبة من 15 مايو إلى 5 يونيو في تطوان. وكان ذلك الزفاف حدثا فريدا من نوعه، لأنه الأول الذي تم فيه الإعلان للعموم عن اسم زوجة أمير يتولى منصبا من عيار الخلافة، لحامله بلاط وحكومة. وفي نفس الوقت تعرف الجمهور على وجه الزوجة/الأميرة، ونشرت الصحافة تفاصيل سيرتها، بعد أن عاشت حياة مدنية عادية، حيث درست مع العموم، وشاركت في أنشطة اجتماعية ، ليس فقط من موقعها في منصة أو في مقدمة استعراض، بل إنها كانت متطوعة فعلا في الصليب الأحمر، وشاركت في مباريات كرة المضرب مع الجمهور، ورآها الناس تمشي في الأسواق. ثم إنها كانت متعددة الألسن، واجتماعية بالفطرة. وكانت احتفالات الزفاف فرصة لفتح صفحة من تاريخ المغرب القريب العهد. فقد توفي والدها قبل مدة قريبة. وأدركته المنية وهو في طنجة، حيث عاش بقية حياته منذ أن تخلى عن الملك. وكانت إثارة ذلك تثير في حد ذاتها تذكيرا بأن المغرب كان لعهد قريب جدا دولة مستقلة ذات سيادة. وبالتالي فإن تطلع المغاربة لاسترجاع الاستقلال لم يكن بدعة خارقة للعادة. وكان انخراط الخليفة في المشروع الوطني الرامي إلى استعادة الاستقلال والوحدة، يسير في سياق ما يخامر ملك البلاد والحركة الوطنية من تطلعات. وهذا ما تأكد في وقت قريب من الأحداث التي نتطرق إليها، منتصف الأربعينيات، حيث التقى الخليفة مع ملكه في أصيلا، لدى عبور الملك محمد الخامس لتراب منطقة الحماية الإسبانية، ( شطر الشمال) في طريقه إلى طنجة في الرحلة الشهيرة التي تمت في أبريل 1947. نعم تم ذلك اللقاء بحضور شاهد مقحم، هو المفوض السامي الإسباني، الذي حضر المراسيم والغداء، ولكن قبول ذلك الحضور كان ضريبة لابد من أدائها، بمقتضى عقد الحماية الذي يقيم مؤقتا الحجر على السيادة ويكرس تجزئة التراب الوطني. وقد وجد مولاي الحسن بن المهدي نفسه في معمعة الحراك الشديد الذي كان الشعب المغربي منخرطا فيه، بمنطقة الحماية الإسبانية بشطريها الشمالي والصحراوي، وهو يسعى إلى استعادة الاستقلال والوحدة. فقد شاءت تصاريف الزمان أن يجد الأمير أن اسمه يتردد في سياق مبادرات ومخططات من تدبير من أتى بهم القدر لتكون لهم كلمة في الشأن المغربي. ففي بداية الأربعينيات كان فرانكو قد حاول أن يستثمر ظروف الحرب العظمى الثانية، ليحقق مكاسب على حساب غريمته فرنسا، التي كانت قد منيت بهزيمة على يد قوات هتلر. وتصور فرانكو أن في إمكانه أن يتطلع إلى أن يطلب من الفوهرر رخصة لإطلاق يد إسبانيا في التراب المغربي، لكي لا يبقى محصورا في سلسلة جبال الريف، وكثبان من الصحراء. وتصور أنه يطلب شيئا ممكن التحقيق حينما اقترح أن يستمر نظام الحماية، ولكن فقط تحت مسؤولية إسبانيا، التي حلمت بان تبسط نفوذها على كامل المغرب، وتنصب مولاي الحسن بن المهدي سلطانا على التراب الموحد. ولكن الألمان لم يجاروا فرانكو في ذلك الحلم، الذي رفضه الوطنيون، وحينما أجرى مولاي الحسن بن المهدي استشارة بشأن المشروع فرانكو انضم إلى من رفضوه. وقال أنا واحد منكم. ومرة أخرى، بعد حوالي عقد ونصف من ذلك تردد اسم الخليفة مولاي الحسن في مشروع آخر صاغه المقيم العام الفرنسي فرانسيس لاكوسط الذي خلف غيوم وأخذ يبحث عن مخرج للمشكلة التي خلقها سلفه. وفكر وقدر واستسلم لفكرة بدت له جذابة، قوامها أن يحل مولاي الحسن محل بن عرفة في العرش بالرباط. وتخيل أنه بذلك يمكن أن يحيد إسبانيا، وأن يحرك قطعة في رقعة أنصار محمد بن يوسف. وبعد سنوات من ذلك أكد لاكوسط أنه كان جادا في مشروعه، ولكنه مشروع تعرض لمعاكسات من بينها رفض الأميرة الوطنية للافاطمة الزهراء الوثيقة الصلة مع الوطنيين. ونسي لاكوسط أن زوجها بالذات ليس من طينة أولئك الذين يمكن أن ينساقوا وراء أضغاث الأحلام. كان الأمير مولاي الحسن بن المهدي قد قضى في المنصب حوالي ثلاثين سنة. كانت مليئة بالدروس. وتعامل مع ثلاثة أنظمة، الديريكتوريو، والجمهورية وفرانكو. وفي كل طور كان انتباهه مركزا بشدة على ما يجري في المغرب والعالم. وأمكنه أن يحتك مع أنماط متنوعة من الناس، بمن فيهم من إمعات، وكذلك من عناصر متنورة، تهيئ المرحلة التي لابد من وصولها، حيث يستعيد المغرب استقلاله ووحدته. تولى المسؤولية وهو صغير السن. واستمع ورأى والتقط مشغلا حدسه ونباهته. مرة ، وهذه يرويها أمين الريحاني في كتابه عن المغرب، طلب من أحد وزرائه أن يسعفه برأي في نازلة من النوازل. وفوجئ حينما قال له الوزير، الرأي هو ما يراه سيدنا. فألح عليه مولاي الحسن أنه يريد فعلا أن يدلي له برأيه هو. وقال ساخرا: إني ناديتك بوصفك أطول لحية في الحكومة لتدلني على رأيك أنت. أما رأيي أنا فأنا أعرفه. يهمني ماذا تقول أطول لحية في حكومتي.