بعد انتصارات الثورة في ليبيا، عادت الى الضوء قضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين في ليبيا أثناء احتفالات الفاتح من سبتمبر عام 1978. ولمعرفة دوافع عملية الخطف أو القتل هذه، لا بد من قراءة سيرته وتاريخ حركته ومضامين دعواه في لبنان. لم يكن مصادفة أن يحمل السيد موسى الصدر منذ عاد إلى لبنان، تراثَ السيد عبد الحسين شرف الدين (أي التراث الوطني اللبناني المستند إلى عروبة حضارية لا لَبس فيها ولا غبار عليها)، وأن يتمايز عن أقرانه ورفاقه الذين أسسوا «حزب الدعوة» في النجف (بين عامي 1957 و1959)، فإلى التراث الإيراني الدستوري الإصلاحي ينتسب السيد موسى، منذ درس في الحوزة العلمية بقم على أيدي أعلام التجديد والإصلاح الكبار، كما أنه كان أول معمَّم يدخل جامعة طهران الحديثة وكلية الحقوق فيها، وهو تخرّج من جامعة طهران الحديثة العلمانية وعاد إلى قم أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق ومؤسساً لأهم وأكبر مجلة إسلامية شيعية تنويرية إصلاحية (مكتب إسلام) مع بهشتي والشيخ ناصر مكارم وبدعم وتوجيه من آية الله كاظم شريعتمداري الدستوري الديموقراطي. وكانت رئاسة الحوزة الدينية في قم معقودة للمجدد السيد البروجردي الذي لم يكن الإمام الخميني من أنصاره ومؤيديه، بعكس الإمام محسن الحكيم والإمامين الصدر وشمس الدين، الذين كانوا من أنصار البروجردي. وفي ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه «حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي، وقامت منافسة بين نشرتنا «مكتب تشيع» وبين نشرة «مكتب إسلام» التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري»: «لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما»، «... في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له، وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج، وقد أسس دار التقريب بين المذاهب (في القاهرة) ومركز هامبورغ الاسلامي» (الذي أداره بهشتي ثم الرئيس خاتمي)... عُرف عن الإمام موسى الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وبأصدقائه الإيرانيين أقطاب حركة تحرير إيران: مهدي بازركان وصادق قطب زادة وآية الله الطالقاني وابراهيم يزدي ومصطفى شمران وعلي شريعتي، وهم (بحسب رفسنجاني في مذكراته) «كانوا يعطون أهمية كبيرة للانفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنوِّرين والعلماء وتجار البازار المتدينين». لم تمض أشهر على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الانشقاقات والصراعات داخل حزب الدعوة، الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الانسحاب من الحزب، فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (إثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد موسى الصدر)، ثم انسحب الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعه آخرون، إلى أن أعلن السيد محمد باقر الصدر (ابن عم السيد موسى وزوج شقيقته فاطمة) فتواه التاريخية بعدم جواز انتساب علماء الدين وطلبة العلوم الدينية إلى أي حزب كان، إذ هم يعملون للإسلام، أي لكل الناس. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام موسى الصدر منذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف الشيعة وأوضاعهم، ولحاجات التنظيم والاستنهاض، التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية. هكذا إذاً تبلور تيار حزب الدعوة الذي بدأ يعمل في لبنان تحت عباءة بعض المشايخ وواجهات طلابية ودينية مختلفة (شاركت كلها في تكوين حزب الله لاحقاً وهم اليوم أبرز قادة الحزب)، وفي مقابله تيار العمل الإصلاحي الديموقراطي الذي مثَّله الإمامان الصدر وشمس الدين. لم يكن في ذهن الصدر صياغة مشروع فئوي مذهبي أو تقزيم مشروعه الوطني العربي الإسلامي الإنساني وتحويله رهينة لمطالب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، أو رهينة لظرف سياسي أو لضرورة إقليمية أو لتحالف قوى محلية-إقليمية. لم يبحث الإمام عن حل سياسي سهل وسريع يمكّنه من دخول مسرح الصراع السياسي بسرعة، لكن على حساب مشروع التغيير الشامل المتكامل، إنما عمل الإمام على بناء حركة تتسم بشمولية وتعددية الإيقاعات وتبتعد عن الأحادية قدر الإمكان... لم يكن مشروع حركة المحرومين مشروعاً لتيار أو حزب أو طبقة أو مطلب، بل كان مشروعاً لتحريك إيجابي لكل العناصر الإيجابية، يسمح بدخول المحرومين من كل الطوائف والمناطق إلى مسرح التغيير. وعلى رغم رفع الإمام الصدر شعار إلغاء الطائفية السياسية، إلا أنه كان يعي أن دونه عقبات كبيرة وخطيرة، لذلك تحرك من أجل تحصيل حقوق الطائفة المصادرة في عملية إصلاحية تدريجية للنظام السياسي الطائفي القائم، لا تعتمد العنف وسيلة للتغيير أو الإصلاح، وهو لذلك اعتبر ان الأدبيات اليسارية التي طالما رأت في الطائفية أمراً عارضاً سطحياً طرأ على المجتمع، هي أدبيات خاطئة لا تلامس الواقع وبالتالي فهي لن تستطيع تغييره. آمن الإمام الصدر بأن لبنان هو بلد التعايش، والتعايش فيه «أقدم من الميثاق الوطني ومن واضعي الميثاق الوطني ومن آبائهم وأجدادهم. منذ ألف سنة، فتح اللبناني عينه فوجد جاره من غير دينه”. إلاّ أن هذا التعايش لن يحقق الاستقرار والازدهار والطمأنينة لجميع اللبنانيين إلا اذا أنهى التفاوت الكبير بين الطوائف اللبنانية التي يتشكل منها لبنان، ولذلك فإن شعار موسى الصدر كان العدالة والمساواة وليس الغلبة والاستقواء والاستئثار أو التغيير الراديكالي بالعنف... من هذا المنطلق، رفض الإمام الصدر رفضاً قاطعاً الحربَ الأهلية التي اشتعلت في منتصف السبعينات، كما عارض حلول أي طرف من أطراف النزاع محل الدولة ومؤسساتها، ودعا إلى نزول الجيش إلى الجنوب مهما كانت هويته السياسية كي لا يصبح الجنوب بيد الفصائل المسلحة، ما يعرضه لأخطار العدوان الإسرائيلي وتهجير أبنائه وتوطين الفلسطينيين مكانهم. وتحرك الصدر لإنهاء الحرب الأهلية، داعياً الى قبول مؤسسات الدولة اللبنانية «حتى لو كانت أشباحاً، فغياب الترابط بين المواطن الشيعي والدولة يؤدي إلى غياب الولاء للدولة، كما أن وجود مثل هذه المؤسسات دليل على وحدة الوطن ووحدة اللبنانيين». وعلى رغم إنشاء الإمام الصدر حركة عسكرية مسلحة، هي حركة المحرومين، ومساهمته في تسليح الطائفة الشيعية، إلا انه وقف بقوة وحسم ضد الحرب الأهلية التي كانت «تدور لأغراض تتجاوز حدود الوطن». لقد وقف ضد السلاح والمسلحين حين وجد هذا السلاح أداة تخريب وفتنة وليس «زينة الرجال»، فاعتصم في مسجد الصفا في بيروت وصام «لكي يصوم اللبنانيون عن السلاح والعنف»، وأبدى خوفه وقلقه يومها على مشروع اندماج الشيعة في لبنان بصورة متكافئة مع بقية الطوائف وعلى مشروع الدولة الواحدة وعلى قداسة سلاح المقاومة والمقاومين. في تموز (يوليو) 1975 أعلن الإمام السيد موسى الصدر عن تشكيل «أفواج المقاومة اللبنانية»، كوسيلة لتوجيه الأنظار نحو الجنوب ولإعطاء بُعد لبناني وطني للصراع في الجنوب يسمح في مرحلة تالية بطرح ضرورة أن يكون قرار الجنوب لبنانياً، بعد أن فشل (هو وغيره) في كل محاولاته لوقف الحرب الأهلية (من نداءات إنسانية ووطنية، إلى قمم روحية، إلى اعتصام العاملية، إلى اعتكاف بعلبك، إلى جولات عربية... إلخ)، وقد لقيت مبادرة الإمام تجاوباً شيعياً كبيراً، وكان الشيعة قد بدأوا يضيقون بالسلطة الفلسطينية-اليسارية المشتركة وبالأمن الشعبي والإدارة الذاتية وبالتجاوزات المختلفة (التي كانت تحصل باسم قداسة السلاح المقاوم والممانع)، ولكن، أيضاً وأساساً، بالغموض حول مصيرهم وحول آفاق معاناتهم. كان التوجه العام للتحرك الذي قاده الصدر يستهدف بناء مقاومة لبنانية فعلية في الجنوب وتوجيه كل البنادق نحو العدو الصهيوني، باعتبار ذلك هو الطريق الوحيد للخروج من الفتنة الداخلية ووقف الحرب الأهلية المدمرة وإعادة بناء علاقات لبنانية-فلسطينية سليمة ومعافاة، وعلاقات لبنانية-سورية «مميزة». ثم تمحور هذا العمل حول ضرورة إنجاح التسوية السلمية اللبنانية الداخلية (كونها أفضل مقاومة في وجه العدو) التي نتجت عن مؤتمري القاهرة والرياض، والتي كان الإمام الصدر هو عرّابها وراعيها (طائف لبناني-عربي-دولي أول لم يستمر، بسبب انهيار الوضع العربي بعد زيارة السادات للقدس والصراع بينه وبين محور «الصمود والتصدي»). عن هذه المرحلة يروي الشيخ رفسنجاني وقائع زيارته إلى لبنان في مطلع الحرب الأهلية (1975)، فيقول ما حرفيته: «في لبنان كانت الحرية أمراً لافتاً. كنت أعرف السيد موسى الصدر من قبل، فقد قرأت عليه جزءاً من المطوّل (أي أنه تتلمذ عليه في قم). الشهيد محمد منتظري (ابن الشيخ حسين علي وكان يومها زعيم التيار الراديكالي في حركة الخميني-سعود) كان على معرفة وثيقة بالقوى المناضلة والفاعلة في لبنان كلها. مباحثاتي كان لها تأثير في تعديل بعض المواقف ووجهات النظر المتطرفة (التي كان يحملها الإيرانيون الملتحقون بالثورة الفلسطينية، مثل الشهيد محمد منتظري والشهيد محمد صالح الحسيني وجلال الدين الفارسي ومحسن رفيق دوست ومحتشمي وغيرهم). وكان أنصار الإمام الخميني، وعلى رأسهم ابنه المرحوم السيد مصطفى، في نزاع مع السيد موسى، مصدره الأصلي والوحيد مسألة المرجعية، إذ لم يعلن السيد الصدر تأييده لمرجعية الخميني. كان الشبان الإيرانيون في لبنان يريدون أن يأخذ السيد موسى موقفاً صريحاً.. وكانت لهم خطب لاذعة وبيانات.. ذهبت لمقابلة الإمام الخميني في النجف وللتقريب بينه وبين السيد موسى الصدر». كل مساعي التقريب لم تنجح، وتفاقم الصراع بين الخط الراديكالي الخميني والخط الإصلاحي الصدري... لكن ذلك لم يمنع الإمام الصدر من الوقوف الى جانب ثورة الشعب الإيراني وعلماء الدين فيه، وكان آخر مقالاته ما كتبه في «اللوموند» الفرنسية بعنوان «نداء الأنبياء». أدى اجتياح 1978 واحتلال جزء من ارض جنوب لبنان إلى نشوء وضع جديد، وكان الإمام الصدر سباقاً ومتميزاً في المسارعة إلى فهم معنى ذلك، وبالتالي إلى تقدير خطورة الوضع على لبنان وعلى الثورة الفلسطينية، فبعد وصول الليكود لأول مرة الى الحكم في اسرائيل، ومبادرة السادات بالذهاب الى القدس، ثم التمهيد لكامب دايفيد، كان انقسام الوضع العربي بين معتدلين من جهة وجبهة الصمود والتصدي من جهة أخرى، هو النتيجة الحتمية التي حاول الصدر تجنيب لبنان آثارها وانعكاساتها، وكانت جولة الإمام العربية التي قادته إلى حتفه في ليبيا. حاول الصدر الدعوة لقمة عربية استثنائية، بعد اتفاق مع الرئيس اللبناني الياس سركيس ومندوب لبنان في الأممالمتحدة صديقه غسان تويني وصديقيه الكبيرين أبوعمار وأبو جهاد على توسيع انتشار القوات الدولية في الجنوب وتعزيز عديدها وتسليحها ودعم مهماتها وصلاحياتها. حسبما نذكر، ونعيد التذكير لعل الذكرى تنفع، فإن الإمام الصدر حمل مشروعاً واضحاً محدداً يتمثل في اعتماد خطة عربية مشتركة تتحدد فيها مهمات جبهة الجنوب، وفي انسحاب قوات الثورة الفلسطينية والأحزاب من الجنوب وتسليمه إلى سلطة الجيش اللبناني، وفي أن تكون المقاومة اللبنانية جزءاً من الجيش (حرس حدود أو كتائب وألوية دفاع) وتحت قيادة موحدة، وبغطاء عربي واضح ومحدد، ناهيك عن غطاء الشرعية الدولية المتمثل بالقرار 425. وكان هذا المسعى يتناقض مع مساعي جبهة الصمود والتصدي وراعيها الدولي (الاتحاد السوفياتي) وفارسها العربي الأول (العقيد القذافي)، الذي كان يمول ويسلح عشرات التنظيمات ويسيطر من خلالها هو وحلفاؤه على قرار جنوب لبنان.