عاد الاهتمام مجددا بقضية الإمام موسى الصدر، بعد أن أصدر القضاء اللبناني يوم أمس الأربعاء، مذكرة اتهام رسمية ضد العقيد معمر القذافي، وخمسة عشر مسئولا ليبيا، ومواطنا موريتانيا، بتهمة اختطاف موسى الصدر ورفيقيه، الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين، خلال زيارتهم لليبيا بدعوة رسمية في غشت 1978. وطالب المحقق العدلي سميح الحاج في المذكرة بإيقاع عقوبة الإعدام في حق العقيد القذافي، وستة مسئولين ليبيين آخرين، كما طالب بإلقاء القبض على عدد من المسئولين الليبيين، في مقدمتهم الرائد ركن عبد السلام أحمد جلود، الذي كان يعتبر الرجل الثاني في ليبيا، قبل أن يعتزل العمل السياسي بسبب خلافات حادة مع العقيد القذافي. وطالب المحقق أيضاً باعتقال وزير الخارجية السابق، والمسئول عن الملف الليبي في الخارجية الليبية حاليا، علي عبد السلام التريكي، وأمين الاتصال الخارجي الأسبق في مؤتمر الشعب العام أحمد الشحاتي، وسفير ليبيا السابق في لبنان عاشور الفرطاس، ومحمد علي الرحيبي الذي كان يحمل رتبة مقدم في المباحث الليبية، والسفير الموريتاني السابق في ليبيا محمد ولد داده. "" ليست هذه المرة الأولى التي يتولى فيها القضاء اللبناني التحقيق في هذه القضية، والتي تسببت في قطع العلاقات الدبلوماسية بين ليبيا ولبنان عندما أغلقت ليبيا سفارتها في بيروت عام 2003، ولكنها المرة الأولى التي يوجه فيها الاتهام رسميا للعقيد القذافي وكبار مساعديه، والذين اعتزل بعضهم العمل، وبعضهم غادر الحياة. نفي مستمر حتى الآن تنفي ليبيا على كافة المستويات أية علاقة لها باختطاف واختفاء موسى الصدر ورفيقيه. وتقول إن الصدر كانت له علاقة ممتازة مع القيادة الليبية، وإنه غادر مع رفيقيه ليبيا يوم 31 أغسطس 1978 في طائرة خطوط اليطاليا إلى روما. وكشفت التحقيقات التي أجرتها السلطات الإيطالية عن وجود جوازي السفر العائدين للصدر ويعقوب في فندق هوليداي ان في العاصمة الإيطالية، وكذلك حقائبها وأغراضهما الأخرى. ولكن بعض الهفوات دلت على أن الشخصين اللذين اختفيا بعد عشر دقائق من دخولهما الفندق في زيين مدنيين، هما من انتحل شخصية المختفيين، بما في ذلك ارتداء أزيائهما الدينية المميزة، واستخدام لحى وشعوراً مستعارة. وكشفت التحقيقات أن رفيقهما الثالث الصحافي عباس بدر الدين لم يصل إلى مالطا كما كان مخططاً، بينما وجدت حقائبه في روما مع حقائب الصدر ويعقوب، في حين أكدت التحقيقات التي أجريت مع طاقم وركاب طائرة اليطاليا رحلة 881 أنه لم يكن معهم أشخاص بمواصفات الصدر ورفيقه. وفي تصريح لصحيفة الشرق الأوسط، قال عبد المنعم الهوني، عضو مجلس قيادة الثورة الليبي سابقا، ومندوب ليبيا الدائم في الجامعة العربية "اعتدنا على هذه الترهات من هؤلاء في هذا الوقت تقريبا من كل عام، لكننا لا نعيرهم أي اهتمام". بالرغم من أن العقيد القذافي كان قد اعترف في خطاب ألقاه عام 2002 باختفاء الصدر ورفيقيه في ليبيا، كما جاء في محضر الاتهام، كما سبق أن عرض القذافي على عائلة الصدر تعويضا ماديا مقابل إغلاق الملف نهائيا. لكن العائلة رفضت العرض، وقال صدر الدين الصدر ابن الإمام موسى الصدر، أنه يرفض التعويض الذي لم يذكر قيمته، وأنه يسعى لمعرفة الحقيقة قبل كل شيء، والإفراج عن الإمام ورفيقيه، ومحاكمة المسئولين عن اختفائهم. الإمام المنتظر ليس الإمام الصدر بالشخصية العادية مثل ركاب طائرة لوكربي واليو تي أي، أو ضحايا ملهى لابيل، وإنما هو قائد الطائفة الشيعية في لبنان، ومؤسس حركة أمل، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. بالتالي فإن قضية اختفائه لها طابع سياسي إقليمي ودولي، أبعد من طبيعتها الجنائية. لهذا لم تخفت القضية التي كانت قد أغلقت لعدم كفاية الأدلة عام 1986، ولكن علاقات ليبيا الوطيدة مع إيران وسورية حالت دون أن تتحول إلى لغم قابل للانفجار في أي وقت. وليس من المستبعد أن تكون إيران هي التي تقف خلف التسخين الجديد للقضية، تعبيراً عن استيائها من تصريحات أدلى بها القذافي مؤخرا، وقد تنبأ القذافي في تلك التصريحات بأن إيران ستشهد نفس مصير عراق صدام حسين، إذا واصلت سياستها الحالية ضد الغرب، ونصحها ان تفعل مثلما فعل هو لتجنب هذا المصير. ومما يرجح هذا الاحتمال انضمام حزب الله، المقرب من طهران، إلى حركة أمل في المطالبة بمعرفة مصير الصدر ورفيقيه. سيكون عمر الإمام الصدر لو بقى حتى الآن على قيد الحياة 80 عاما، وهو ما يرجح وفاته بشكل طبيعي أو بغيره. ونظرا لمكانته الخاصة عند أتباعه ومريديه، فلن يستطيع العقيد القذافي طي هذا الملف كما فعل مع كل القضايا المرفوعة ضد ليبيا، بما في ذلك القضايا التي رفعها مواطنوه الليبيون، حيث قررت الدولة الليبية تعويض ضحايا مذبحة سجن ابو سليم عام 1996، بحوالي 120 ألف دينار ليبي للأعزب، و130 ألف للمتزوج، كما قررت دفع تعويضات للسجناء السياسيين وسجناء الرأي، بحوالي 2000 دينار ليبي عن كل شهر في السجن. وكانت ليبيا قد عوضت كل قتيل أمريكي بعشرة ملايين دولار، وكل قتيل أوروبي بمليون دولار. لكن الأمر يبدو مختلفاً مع قضية اختفاء الإمام موسى الصدر. ففي هذه القضية يصر المتضررون على معرفة الحقيقة، قبل التعويض. وقد تحول الإمام الصدر إلى "إمام غائب" ومنتظر بحيث تماهى إلى حد بعيد مع معتقدات الطائفة التي كان يقودها أكثر من أي قائد آخر، وهو ما يجعل قضيته حساسة ومعقدة في ظل الاستقطاب الطائفي الحاد الذي تشهده المنطقة حاليا، وهو ما يرشحها لتكون قضية ساخنة، خاصة إذا نفذت بعض الأطراف اللبنانية تهديداتها بخطف أفراد من عائلة القذافي، أو مسئولين ليبيين. هل قتل الصدر في مذبحة بوسليم؟ ترجح بعض المصادر الليبية أن يكون الإمام الصدر قد تمت تصفيته في ليلة 30 يونيو 1996، وهي الليلة التي شهدت وقائع مذبحة سجن ابوسليم، والتي تقول بعض المصادر أن 1200 سجين معظمهم من الإسلاميين قد تمت فيها تصفيتهم، بعد تمرد قصير أعقبته مفاوضات تم بعدها استسلامهم. وأن السلطات الليبية قررت تصفية المختطفين لديها، ومن بينهم الصدر ورفيقاه، وجاب الله مطر والد الروائي الليبي هشام مطر، ووزير خارجية ليبيا الأسبق الدكتور منصور الكيخيا، الذي اختطف من القاهرة عام 1993. وإذا صحت هذه المزاعم فإن قضية الصدر ستلقي بظلالها على الوضع الداخلي في ليبيا، في حالة ما استجاب القذافي لطلب عائلة الصدر، وكشف عن المصير الحقيقي للإمام الصدر، الأمر الذي سيجعل السلطات تكشف عن الوقائع المرعبة لتلك الليلة. ليبيون يرفضون التعويض أيضاً ليست عائلة الصدر فقط من رفض التعويض قبل معرفة الحقيقة، وإنما انضمت لها ثلاث عائلات ليبية فقدت أبنائها في مذبحة سجن ابو سليم. كما أن القضاء اللبناني بالرغم من انه اختار الذكرى السنوية الثلاثين لاختفاء الصدر ورفيقيه، فقد اختار أيضا توقيتا دقيقا لتوجيه الاتهام للعقيد القذافي. فيوم السبت القادم سيتوجه رئيس الوزراء الإيطالي، سيلفيو برلسكوني في زيارة تاريخية إلى ليبيا، حيث ينتظر أن يعتذر رسميا عن فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا، من شرفة قصر المنار في بنغازي. وهي الشرفة ذاتها التي سبق أن تحدث منها بنيتو موسوليني إلى ضحاياه الليبيين. يحاول العقيد القذافي من خلال هذه الزيارة تحقيق شيء من التوازن، بعد أن دفع مليارات كثيرة لتعويض الغربيين عن كل الهجمات الإرهابية ضدهم، ويتوقع الإعلان في هذه الزيارة عن تعويض إيطاليا لليبيا ببناء طريق يمتد ما بين الحدود المصرية والتونسية. وكانت العلاقات قد ساءت بشدة بين إيطاليا وليبيا، في أواخر حكومة برلسكوني السابقة عام 2005، عندما هاجم متظاهرون ليبيون قنصلية إيطاليا في بنغازي وأحرقوها بالكامل، احتجاجا على ارتداء الوزير كالديروني لقميص طبعت عليه الرسوم الدانماركية المسيئة للنبي محمد. ولكن المظاهرة التي نظمتها الحكومة قبل أن تخرج عن السيطرة في فبراير 2005، لم تكن ضد الوزير كالديروني، وإنما ضد الحكومة الإيطالية التي استجابت لمطالب الوفد اللبناني بإعادة التحقيق في اختفاء الإمام موسى الصدر.