استغربت من فريقين يتحدثون عن إسقاط القذافي وانتصار الثورة؛ معلقون ينتقدون الثوار لأنهم استعانوا بالقوى الأجنبية ممثلة في الناتو.. يقولونها من قبيل الانتقاص، وآخرون من الموالين للثوار يخجلون من الاعتراف بدور الناتو ويغضبون ممن يشير إليه. ولا أحد يريد الحديث عن هذه المسألة تجنبا لحساسيتها، لذا، وجريا على عاداتي النقدية السيئة، سأجرب حظي في خوض النقاش. صحيح أن طرابلس حررت فقط قبل يومين، ومعمر القذافي لا يزال يسمع صوته من حفرة ما في ليبيا، لكنه فعليا سقط منذ الساعة التي هزم الثوار فيها قوات القذافي وطردوهم من مدينة بنغازي قبل ستة أشهر.. حرروها دون أن يكون هناك «ناتو» أو طرف خارجي، فكان الانتصار الأول هائلا بمقاييس التحديات الليبية. بعد تحرير بنغازي فقط التفت العالم إلى ليبيا وبدأت القوى المختلفة تتحالف مع الثوار المنتصرين. والمعركة أمامنا كانت بين قوتين غير متكافئتين على الإطلاق.. القذافي بإمكانات عسكرية هائلة، والثوار كانوا مجاميع شعبية معظم أفرادها لا علاقة له بالعسكرية.. وسلطة فاحشة الثراء تملك نحو ثلاثين مليار دولار من النقد والذهب في بنوكها الداخلية، وعلاقات بحكومات مرتزقة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ضد ثوار فقراء يستخدمون أسلحة بسيطة على سيارات نقل يابانية كانت تستخدم لنقل البضائع والماشية. ومع أن الفرنسيين والقطريين والإماراتيين والبريطانيين وغيرهم أسسوا تحالفا لدعم الثوار، إلا أن دورهم لم يصبح ميدانيا إلا متأخرا. ومن حظ الثوار أن القذافي المكروه دوليا ارتكب أخطاء بعقلية غرور الديكتاتور عندما حشد قواته لتدمير بنغازي ليلة اجتماع مجلس الأمن، فتسبب في إصدار قرار مفاجئ يسمح باستخدام القوة لحماية المدنيين، فتغير الواقع الميداني ضده بعد ذلك. لا شك أن للناتو دورا مهما في مقاتلة قوات القذافي من الجو، وتدمير قدراته الرئيسية، ولدى التحالف إمكانات إلكترونية ومعلوماتية متفوقة ساهمت في دحر جيوش القذافي، لكن معظم القتال على الأرض كان للثوار. إن مهمة إسقاط ديكتاتور كالقذافي لا تجوز مقارنتها بما حدث في تونس ولاحقا مصر، بل مهمة أصعب بعد أن جثم هذا الديكتاتور المجنون على صدور الليبيين أربعين عاما بكل وسائل القمع.. رجل لم يعرف حدودا أو رادعا عن القتل. وبأمواله اشترى، أو أخاف كل القوى والدول في المنطقة. وكان لمثله أن يعيش عشرين عاما أخرى يحكم ليبيا بالعقلية واليد الحديدية نفسيهما. وبالتالي، فإن انتقاد الثوار لأنهم قبلوا بالمساعدة الدولية فيه ترف كلامي من أناس لا يعانون ولا يبالون بمعاناة الآخرين. ولو لم يهب التحالف الدولي لإنقاذ الكويت، كان الكويتيون اليوم مشردين في العالم.. ولو لم يهب الناتو في مواجهة الصرب، كانت كوسوفو اليوم مقبرة فيها مليون قتيل مسلم. ولو وجد الفلسطينيون اليوم عونا من أي قوة دولية لركضوا إليها طالبين النجدة.. ولولا الحلفاء ما استطاع الفرنسيون تحرير بلادهم من قوات هتلر. في ليبيا، الثورة بكاملها أشعلها ليبيون، وعلى الأرض تقريبا كلهم ليبيون، ولا يعيبهم النجدة الدولية، فالعالم يريد أيضا الخلاص من مجنون ليبيا، وسبق أن حاولت دول عظمى في الماضي التخلص منه وفشلت، فكان من الطبيعي أن يجد الثوار سندا خارجيا مستعدا لمد يد العون يختصر الزمن، بدل القتال سنوات أخرى إضافية بمزيد من الدماء والدمار.