لا ينتظر أن تضمن أغلب الأحزاب السياسية المغربية، برامجها الانتخابية المقبلة، فقرات تخص رؤيتها وتصورها للسياسة الخارجية الواجب إتباعها ولما يجب أن تكون عليه، في حال وصولها إلى الحكم أو اصطفافها في المعارضة، حيال العلاقة مع الجارين الأقربين الجزائر وإسبانيا، على اعتبار أن الدولتين تحشران نفسيهما، كل بأسلوبه، في شأن مغربي داخلي له علاقة باستكمال وحدته الترابية في شمال المملكة وجنوبها، كانت له تداعيات في الماضي، في غياب أي مؤشر مطمئن إلى أنها ستختفي أو ستخف حدتها على الأقل في الحاضر أو المستقبل المنظور. ومن المفارقات التي اتخذت صفة الدوام في هذا المجال، أن الطبقة السياسية المغربية، استطابت استئثار القصر بكل ما يتعلق بملفات السياسة الخارجية، بناء على تقليد رسخته الدساتير القديمة ، مكتفية وقانعة، أي الأحزاب، بدور التأييد والتصفيق، دون أن تعرف في الكثير من الأحيان، حيثيات وخلفيات القضايا الخلافية مع الخارج ،بل إنها تجر أحيانا إلى حلبة صراع مع الأجنبي تخفى عليها ملابساته.ولا غرابة أن تخلو أدبياتها على سبيل المثال، من مقاربات جريئة لإشكاليات الأجزاء المحتلة في شمال البلاد. لم ينزع الدستور الجديد، اختصاصات السياسية الخارجية كلية من سلطة الملك ،مثلها مثل شؤون الدفاع والأمن الخارجي، ولكنه (الدستور) أشرك الجهاز التنفيذي الذي يستمد سلطته الآن من البرلمان، في جانب من تلك السياسة، في تحديد ملامحها الكبرى واختيار القادرين، عبر اقتراح تعيين السفراء، على تنفيذها بالصورة المثلى، دون أن يعني هذا التحول تحقيق التناغم التام بين الجانبين.سيكون الأمر متعذرا خلال فترة زمنية قد تطول وقد تقصر، لأسباب موضوعية من جهة وتبعا لطبيعة تشكيلة الحكومة المنتظرة وكفاءة ومؤهلات من سيقود سفينتها فضلا عن موقف جهاز الخارجية نفسه الذي دأب على الإفلات من المحاسبة على التقصير. ومن الطبيعي أن نتساءل، ونحن على أهبة الانتخابات عن مواصفات أسلوب التعامل مع جارتنا في الشمال، في ظل حكم الحزب الشعبي اليميني، الذي بدأ يرسل الإشارات تلو الأخرى إلى بلادنا قبل ومنذ انتصاره الكاسح في الانتخابات البلدية والإقليمية في شهر مايو الماضي، ما مكنه من السيطرة على أغلب الحكومات المستقلة، وفرض بالتالي على زعيم الحزب الاشتراكي العمالي، رودريغيث ثباطيرو، النكث بوعده وتقديم موعد الانتخابات إلى شهر نوفمبر بدل مارس المقبل ، في محاولة من الاشتراكيين الإسبان للحد من مدى الهزيمة الانتخابية المحققة. وخلال أسبوع واحد، أرسل الحزب الشعبي، على الأقل، ثلاث رسائل متتالية، واضحة ومرموزة، إلى المغرب، أولها اعتزام رئيسه، ماريانو راخوي، المرشح لرئاسة الحكومة، القدوم إلى سبتة ومليلية في إطار الحملة الانتخابية التي سيعلن عنها رسميا أواخر شهر سبتمبر القادم، إرضاء لمطالب اليمين العنصري المتطرف المتحكم سياسيا في ما يسمى"البرلمان المحلي" للمدينتين. وستكون زيارة "راخوي "استفزازا مجددا لمشاعر المغاربة وتذكيرا لهم بجرح استعماري قديم. لن يحمل "راخوي" إلى سكان سبتة ومليلية المغاربة والإسبان ، سوى خطاب الترغيب والترهيب، وطمأنة المعمرين إلى أن القوة الاستعمارية باقية في الثغرين المغربيين ابد الدهر، دون أن يجرأ الحزب الاشتراكي وبقية أحزاب اليسار بما فيه المتطرف، على معارضة هذا الخطاب، كون العائلة اليسارية الإسبانية تعيش حالة نفاق إيديولوجي وانتهازية سياسية نادرة المثال في التاريخ المعاصر والقديم . وتعبر الرسالة الثانية، عن توجه اليمين نحو افتعال أزمة دبلوماسية مع المغرب، على خلفية جوازات السفر التي يتم التنصيص فيها على ذكر اسم المغرب إلى جانب سبتة ومليلية، بالنسبة للمغاربة المولودين في المدينتين وهم من سكان الإقليمين المجاورين الناظور وتطوان. والغريب أن وزارة الخارجية في الحكومة الاشتراكية، رضخت لابتزاز اليمين وأصدرت مطلع العام الجاري، تعميما للسفارات والقنصليات بالخارج، طالبة عدم الاعتراف بالجوازات المغربية الحاملة لذكر سبتة ومليلية، ما يمكن اعتباره تدخلا سافرا في سيادة بلد ومنازعة حقه في أن يكتب ما يشاء في وثائقه الإدارية. السؤال الذي ينبغي توجيهه لجيراننا الإسبان في هذا الصدد يتعلق بتعاملهم مع الوثائق الإدارية الصادرة عن حكومة جبل طارق التي تقول مدريد، إن الصخرة التي تحمل اسم فاتح الأندلس، قطعة من ترابها الوطني. ولا باس من التذكير هنا أن مفاوضات ثلاثية بين مدريد ولندن وحكومة الصخرة، أفضت قبل ثلاث سنوات إلى مبدأ تقاسم السيادة على الفضاء الجوي لجبل طارق بحيث يصبح امتدادا للأجواء الإسبانية ما يقتضي معاملة مماثلة للطائرات المقلعة من المطارات الإسبانية أو من مطار جبل طارق. وهي خطوة بمكن أن يتبعها بسط السيادة المشتركة على موانئ جبل طارق. إنها مرونة دبلوماسية لم تبد قدرا يسيرا منها حكومات مدريد المتتالية، في تعاملها مع المغرب. تضاف إلى الرسالتين المذكورتين، ثالثة قديمة ومتكررة، فاقدة بطبيعة الحال للود والمجاملة الدبلوماسية المفترضة بين الجيران، إذ ما فتئ اليمين الإسباني، تحميل المغرب مسؤولية ارتفاع عدد المهاجرين السريين المقتحمين لأسوار سبتة ومليلية المسيجة بالأسلاك المكهربة المربوطة بشبكة الإنذار الالكتروني. يريد اليمين أن تتولى بلادنا، دور الدرك المدافع اليقظ عن المحتل لجزء من ترابها الوطني، هذا على الرغم من تأكيد الحكومة الاشتراكية أن الرباط ملتزمة بكل الاتفاقيات والتعهدات المبرمة بين البلدين بخصوص محاربة الهجرة السرية. لا يصح القول، من باب المقارنة، إن الاشتراكيين أفضل من اليمين في النظر والتعامل مع مخلفات الاستعمار، فالطبقة السياسية الإسبانية ووسائل الإعلام وحتى المجتمع المدني والجمعيات الإنسانية ومراكز البحث العلمي، لا تختلف فيما بينها كثيرا، بخصوص التجاوب مع المطالب المغربية وفي إصرارها على عدم التخلص من أوهام الماضي. يلزمنا القيام بنقد ذاتي. لم يستطع المغرب الرسمي والشعبي والنقابي والثقافي والاقتصادي، طوال عقود، اختراق الضمير والمجتمع الإسباني، بل ربما فوت فرصا كثيرة لإجراء نقاش صريح وعميق. وترتب عن هذا القصور الذاتي، ممارسة الإسبان لانتقام منا على أخطاء يعتقدون أننا ارتكبناها في حقهم في الماضي .ولا تزال تلك العقدة مستحكمة في ضمائرهم ووجدانهم الجمعي. قبل اقل من سنة، خرج ملايين المغاربة إلى شوارع الدارالبيضاء، يرفعون شعارات الوعيد للحزب الشعبي اليميني، دون أن ينبههم أحد إلى إن الحزب المهاجم رابض على أبواب قصر "لامنكلوا" انتظارا للحظة خروج الاشتراكيين، مكسوري الجناحين. نعم لقد اقتضى الظرف تعبير المغاربة عن ذلك الموقف الوطني بالقوة التي تم بها، لكن كان حريا أن يتلو الاحتجاج الشعبي، تأمل النخب الحزبية والسياسية، في مآل العلاقات الثنائية بين البلدين وتقليب الأوراق التي بيدنا لاستعمالها عند الاقتضاء في معاركنا الدبلوماسية مع الجار الشمالي. صحيح أنه لا يمكن لحرارة وبرودة العلاقات المغربية الإسبانية أن تخرج عن معدلاتها التقليدية اعتبارا لسيادة منطق الدولة والمصلحة المشتركة. هذا أمر صحيح مادام الجانب الإسباني مستفيدا من الوضع المختل القائم. لا بد من القول أخيرا وبنوع من الحسرة السياسية إن جيراننا جعلوا من "المغرب" شأنا سياسيا وانتخابيا داخليا مؤثرا في ميزان القوى، بينما فشلنا حقا في العبور الرسمي والشعبي إلى الضفة الأخرى . وضع يجب أن لا يغيب عن تفكير الحكومة المقبلة ودبلوماسيتها المأمولة. Boukhzar @gmail.com