لم تعش تونس منذ حصولها على الاستقلال عام 1956، أحداثا و تحولات و تقلبات سريعة ومتتالية، مثل تلك التي شهدتها خلال الأشهر الستة الأخيرة التي أعقبت سقوط نظام بن علي في 14 جانفي من هذا العام بعد 23 سنة من الحكم المطلق. فعلى المستوى السياسي، صدر قرار قضائي بحل الحزب الذي انفرد بحكم البلاد على مدى خمسين عاما، مغيرا اسمه بحسب الظروف ومقتضيات التوجهات السياسية. فمرة هو الحزب الحر الدستوري، والحزب الاشتراكي الدستوري مثلما كان في زمن حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (1903-2000) و مرة هو التجمع الدستوري الديمقراطي مثلما كان في عهد بن علي . وقد تم اغلاق المقر الرئيسي للحزب المذكور في العاصمة. كما شمل قرارالغلق هذا جميع المقرات والفروع التابعة له في جميع أنحاء البلاد، وأصبح التونسيون ينظرون اليها كما لو أنها كانت أوكارا للفساد والظلم. أما المسؤولون الكبار عن هذا الحزب فقد وقع تتبع البعض منهم قضائيا مثل أمينه العام محمد الغرياني، في حين أصدرت الهيئة العليا لحماية الثورة التي يرأسها مختص كبير في القانون وهو الأستاذ عياض بن عاشور، قائمة بالمسؤولين التجمعيين الذين سيتم منعهم من المشاركة في الانتخابات القادمة التي ستنظم في 23 أكتوبر القادم. وتعتقد نسبة عالية من التونسيين أن التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يرأسه بن علي، ويشرف على جميع مؤتمراته، مسؤول بدرجة أولى عن كل المظالم التي عرفوها على مدى 23 عام، وعن الفساد المالي والسياسي، وعن التعتيم الاعلامي، وعن التضييقات الخانقة التي كانت تعاني منها وسائل الاعلام المستقلة و المعارضة ، و عن أمراض اجتماعية خطيرة تفشت بالخصوص في أحزمة الفقر المحيطة بالعاصمة و المدن الكبيرة، و في المناطق المحرومة داخل البلاد .و خلال الأشهر الأخيرة برزت على الساحة السياسية أحزاب فاق عددها السبعين حزبا. وهو عدد هائل بالنسبة لبلد يبلغ عدد سكانه 10 ملايين نسمة. لذلك فان الكثير من التونسيين يعترفون بأنهم لا يفرقون بين هذه الأحزاب، ولا بين برامجها، و لا يحتفظون في ذاكرتهم الا بقلة قليلة من أسمائها. و الوزير الأول نفسه، السيد الباجي قايد السبسي البالغ من العمر 85 عاما، والخبير بالحياة السياسية منذ الخمسينات من القرن الماضي قال مازحا أكثر من مرة بأن أسماء الأحزاب الجديدة متشابهة الى درجة أنه لا يستطيع التمييز بينها. مع ذلك هناك أحزاب فرضت نفسها وباتت تتمتع بقاعدة شعبية في كامل أنحاء البلاد. ويمكن أن نذكر من بينها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يقوده المحامي أحمد نجيب الشابي الذي كان مناضلا في الحركات الطلابية الماركسية في السبعينات من القرن الماضي وحزب التجديد الذي يتزعمه أحمد ابراهيم وهو أحد قادة الحزب الشيوعي التونسي القديم. وهذان الحزبان اللذان تساندهما البرجوازية المتوسطة والليبرالية والنخبة المثقفة والحركات الشبابية الديمقراطية التي لعبت دورا أساسيا في المظاهرات التي أسقطت نظام بن علي، متمسكان بالنظام الجمهوري، وبالانجازات التي تحققت في تونس خصوصا في مجال التعليم وحرية المرأة. وهما يدعوان الى ربط علاقات وثيقة مع أوروبا و الغرب بصفة عامة، و يرفضان كل أشكال التطرف والعنف والانغلاق سواء تعلق الأمر بالسياسة الداخلية أم بالسياسة الخارجية. كما أن هاذين الحزبين يعترفان بالجانب التنويري في سياسة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي أزاحه بن علي عن السلطة في السابع من نوفمبر 1987 و الذي كان وراء القوانين والتشريعات التي تم سنها بعد الاستقلال بخصوص حقوق المرأة و تعميم التعليم. وأما الحزب الآخر الذي يتمتع بقاعدة شعبية مهمة فهو "حزب النهضة " الذي يتزعمه الشيخ راشد الغنوشي. وكان هذا الأخير قد أمضى 22 سنة في المنفي في لندن في فترة حكم بن علي. ومنذ عودته هو يحاول أن يقنع التونسيين بأن حزبه لن يكون مختلفا كثيرا عن حزب "العدالة والتنمية" الذي يحكم تركيا و أنه سيكون بالتالي ديمقراطيا في تعامله مع بقية القوى السياسية ورغم ذلك فان هذا الخطاب المعتدل لا يزال يثير الريبة لدى الكثير من التونسيين والتونسيات بالخصوص الخائفات من فقدان ما يتمتعن به راهنا من حريات وحقوق في حالة قيام نظام اسلامي متشدد. ففي الثمانينات من القرن الماضي عمد أنصار حركة "النهضة" بمساندة من زعمائهم الى التهجم على النساء وعلى المثقفين والشعراء والفنانين بتهمة الكفر والالحاد كما أنهم كانوا وراء أعمال عنف وتخريب شهدتها الجامعة وفنادق سياحية ومؤسسات حكومية وخلال الأشهر الأخيرة استولى أنصار النهضة على المساجد محولين اياها الى منابر سياسية مفتوحة للدفاع عن أفكارهم و أطروحاتهم كما قام البعض منهم بالاعتداء السافر على نساء ينتمين الى حركات تنويرية وديمقراطية وعلى مثقفين وفنانين معروفين بمناهضتهم للتزمت و التطرف مثل السينمائي النوري بوزيد. و الشيء الذي بث الرعب في قلوب التونسيين في هذه الفترة الحرجة و الصعبة هو بروز جماعات سلفية أكثر تشددا وتزمتا من جماعات "النهضة". و يتغذي أنصار هذه الجماعات اديولجيا وفقهيا من الواهبيين السعوديين ومن الجماعات الجهادية والتكفيرية في كل من أفغانستان وباكستان. لذلك هم يطيلون لحيهم مثلهم ومثلهم يرتدون القميص والسروال الفضفاض. ورغم أن حزبهم حزب "التحرير" لم يحصل على التأشيرة القانونية فانهم لا يزالون ينشطون. و هم يخرجون الى الشوارع هاتفين " الله أكبر الله أكبر" "نحن جيش محمد" وقد اعتدوا على المعبد اليهودي بالعاصمة وحاولوا أكثر من مرة أداء صلاة الجمعة في شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة. ومؤخرا هجموا على قاعة "أفريكا أرت" حيث كانت تنتظم تظاهرة ثقافية مناهضة للعنف والتطرف وحطموا واجهتها البلورية وكسروا الكراسي واعتدوا بالضرب على العديد من المشاركين والمشاركات فيها. والبعض من هاؤلاء حملوا الى المستشفي جراء الاصابات البليغة التي كانوا ضحيتها. وعبر الفايس بوك قام السلفيون بتهديد مثقفين وفنانين من أمثال الشاعر المنصف الوهايبي الذي كتب قصيدة بديعة في تمجيد الثورة التونسية. وثمة أحزاب أخرى تجاهر بتبنيها أفكار وأطروحات أحزاب أجنبية حكمت بلدانها بالحديد والنار لتقودها في النهاية الى الخراب. ولا يخفي حمة الهمامي زعيم حزب "العمال الشيوعي" ولاءه لستالين وماو تسي تونغ والزعيم الألباني أنور خوجة وهو يرفض كل المقترحات التي تعرض على حزبه بدعوى أنها قد تحيد بالثورة عن مسارها الحقيقي .لذلك أصبح يسمى ب "السيد لا" وهناك أحزاب موالية لحزب البعث الذي سقط في العراق و ربما يسقط قريبا في سوريا. ومثل هذه الأحزاب تستعمل لغة خشبية لا تختلف كثيرا عن لغة النظام المنهار. ومنذ سقوط نظام بن علي لا يزال الوضع الأمني هشا ومضطربا خصوصا في المناطق الداخلية مثل القصرينوقفصة وسيدي بوزيد التي انطلقت منها الثورة بعد أن أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه احتجاجا على الأوضاع المزرية التي كان يعيشها. فقد مرت هذه المناطق بأوضاع صعبة للغاية. كما عاشت أحداثا مؤلمة فتحت جراحا عميقة. ففي مدينة المتلوي حيث مناجم الفسفاط والواقعة على بعد 60 كيلومتر جنوب غربي قفصة اندلعت نزاعات دامية بين عروش وقبائل ذهب ضحيتها 15 قتيلا وعشرات الجرحى. وقد استعمل المتنازعون بنادق صيد وفؤوسا وخناجر وسيوفا وهراوات. وجميع الأحقاد والضغائن التي ظلت كامنة في النفوس كمون النار في الرماد انفجرت فجأة لتكشف عن ظواهر خطيرة كان التونسييون يعتقدون أنها ولت مع زمن تناحر القبائل قبل دولة الاستقلال. وفي مدن وقرى أخرى تعرضت محلات تجارية وأملاك خاصة وعامة ومؤسسات حكومية ومراكز شرطة للتخريب والنهب والحرق. وأكثر من مرة قامت جموع من الغاضبين مسلحين بالهراوات والسكاكين والأحجار بقطع الطرق المؤدية للعاصمة مجبرين المسافرين على البقاء ساعات طويلة تحت الشمس أو تحت المطر. ولا تكاد المظاهرات والاعتصامات تنقطع. وتشهد العديد من القطاعات اضرابات تشل حركتها تماما. حتى القضاة أضربوا. كما أضرب موظفو الجمارك و موظفو "اتصالات تونس" وسواق شركات النقل العام . وقد تدخل الوزير الأول السيد الباجي قايد السبسي في أكثر من مناسبة طالبا من التونسيين بكل لطف ولباقة الكف عن الاضرابات لأنها أصبحت كارثية بالنسبة للاقتصاد غير أن نداءه لم يلق الصدى المطلوب الى حد هذه الساعة. وتمر السياحة التونسية بأسوأ أزمة عرفتها منذ استقلال البلاد عام 1956. ففي مدينة الحمامات مثلا والتي تعتبر من أهم المنتجعات السياحية تكاد تكون الفنادق فارغة إلا من أعداد قليلة من السياح القادمين من روسيا و من بلدان أوروبا الشرقية. حتى الجزائريون الذين كانوا يتوافدون بالألاف على المناطق السياحية قل عددهم هذا الموسم بشكل كبير. ولولا الليبيون الهاربون من جحيم الحرب في بلادهم لكانت أزمة السياحة التونسية أشد ثقلا على أصحابها و على الذين يعتبرونها مصدرا أساسيا لمعيشتهم. ويشهد الاعلام بجميع فروعه المكتوبة والمرئية والمسموعة انتعاشة هائلة لم يسبق لها مثيل. ففي عهد بن علي كان الاعلام مكرسا لخدمة النظام القائم والحزب الحاكم وتمجيد الانجازات و محاربة المعارضة على أساس أنها عميلة و"معادية لمصالح الوطن". وكانت كل الصحف تصدر يوميا بنفس العناوين تقريبا وعلى صفحتها الأولى صورة لبن علي لا تتغير أبدا. وأحيانا تكون هذه الصورة مصحوبة بصورة لزوجته التي كانت قد أصبحت تتمتع بنفوذ سياسي كبير خصوصا خلال السنوات الخمس التي سبقت سقوط النظام . وكانت القنوات التلفزيونية تفرد الجزء الأهم في نشراتها وبرامجها الاخبارية والسياسية لنشاط بن علي ووزرائه متجاهلة غالب الأحيان الأحداث المتصلة بواقع البلاد. فعندما انتفض سكان الحوض المنجمي بالجنوب عام 2007 مثلا لم تتحدث وسائل الاعلام عن ذلك بل لم تشر له حتي بمجرد الاشارة. أما اليوم فقد أصبحت وسائل الاعلام بجميع أصنافها مناصرة للثورة و ناطقة باسمها و مدافعة عنها. حتى الصحف التي كانت في خدمة بن علي ونظامه انقلبت عليه و أصبحت متخصصة في نشر فضائحه وسرقاته وكشف الألاعيب والتجاوزات التي اختصت بها عائلة زوجته و التي كانت سببا في سقوط نظامه. وفي القنوات التلفزيونية والاذاعات أنجزت برامج جديدة يتحاور فيها زعماء الأحزاب والمثقفون والنقابيون عن القضايا التي تشغل المجتمع، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم غيرها. وأصبحت أخبار المناطق الداخلية تتصدر النشرات الاخبارية في القنوات التلفزيونية والاذاعات و الصحف. ومؤخرا استعادت النقابة الوطنية للصحفيين حريتها وأقصت كل الذين كانوا يعيقون عملها ونشاطها بمباركة من نظام بن علي. باختصار لم تعد هناك ممنوعات و لا قيود ولا رقابة. فالحرية الاعلامية تكاد تكون مطلقة وجميع القضايا والمواضيع بما فيها الدينية والأخلاقية وغيرها قابلة للطرح والنقاش والنقد. ويعلم التونسيون أنهم يعيشون راهنا مرحلة مفصلية في تاريخهم لم يشهدوا لها مثيلا منذ الاستقلال. ويعرفون أنها مرحلة صعبة ودقيقة للغاية وأن هناك مفاجئات قد تكون سيئة. لذلك هم يعيشون بين الخوف والأمل فللثورات انحرافاتها. و هذا ما كشف عنه التاريخ وجل ثورات القرن العشرين. كما كشف أن الأطراف التي تشارك فيها وربما لا تشارك فيها مثلما هو حال "النهضة" تشرع في التصارع حالما يسقط النظام القديم. وغالبا ما تتم هذه الصراعات من وراء ظهر الشعب من دون اعتبار لمصالحه القريبة والبعيدة. وهي صراعات اديولوجية في أغلبها لا تهتم كثيرا بحقائق الواقع و مقتضياته. وهذا ما يحدث اليوم في تونس وهو شيء يثير مخاوف التونسيين. فقد تعيد مثل هذه الصراعات الاديولوجية البلاد الى نقطة الصفر لتغرقها من جديد في المظالم والاستبداد. مع ذلك يظل الأمل قائما فالتاريخ أظهر قديما وحديثا أن التونسيين يختارون دائما الاعتدال والتبصر والمسالمة ويرفضون في النهاية كل ما يمت بصلة للتطرف والعنف.