حينما زار الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك الولاياتالمتحدة لاول مرة بعد توليه الحكم عقب اغتيال الرئيس محمد انور السادات، سئل هل هو ناصر جديد ام سادات جديد ؟ فكان رده:"اسمي حسني مبارك ". وبالفعل اثبت مبارك انه من عجينة مغايرة،وان الرجل هو الاسلوب، وان ما يربط بينه وبين الرئيسين عبد الناصر والسادات،هو انه اخر فصل من كتاب " ثورة يوليو". ورث مبارك عن السادات ارثا ثقيلا، لكنه استطاع ان يتجاوز العواصف والانواء، ويصل بمصر الى برالامان، ويعيدها الى الصف العربي، ويكمل مسار عودة سيناء من خلال النجاح في مفاوضات التحكيم حول طابا، واعطى هامشا لحرية الصحافة والتعبير، واشياء اخرى يطول ذكرها هنا،ومع ذلك فان مسار حكم مبارك ظل يفتقد للنظرة المستقبلية، التي يجب ان تتوفر لدى أي حاكم مميز، وألفى نفسه اسيرنظرة "اليوم باليوم ". وقبل ايام شدتني تصريحات ادلى بها بطرس بطرس غالي ،الامين العام الاسبق للامم المتحدة، ووزير خارجية مصر ايام كامب ديفيد لصحيفة "الاهرام"، قال فيها ردا على سؤال حول الفرق بين السادات ومبارك، اللذين عمل الى جانبهما، ان السادات كانت له دائما نظرة مستقبلية للامور الداخلية والخارجية. فداخليا، يقول غالي ، سمحت نظرة السادات المستقبلية بنقل مصر على مراحل من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية، ومن نظام المنابرالى تعدد الاحزاب، اضافة الى انه كان اول من بادر بالانفتاح الاقتصادي. وخارجيا ، جرى انفتاح كبير على العالم بعد ان كان التعاون مقصورا على دول الكتلة الشرقية والعالم الثالث، وكانت له "كاريزما" تؤثر في المشاهد و في من يستقبله. اما الرئيس مبارك، يقول غالي، فان نظرته كانت مركزة على المشكلات الانية والعاجلة، وهي بطبيعة الحال لا تصلح لنظرة طويلة الامد التي تحتاجها نظرة الامم والدول،قبل ان يضيف:"لكن لنعطي كل ذي حق حقه...". علي السمان، مستشار الرئيس للاعلام الخارجي ايام السادات وبداية حكم مبارك، اكد بدوره للصحيفة المصرية العتيدة، اختلاف طبيعة الرجلين، فالرئيس السادات كان رجلا سياسيا من الرأس الى القدمين، وبالتالي يفرق بين الممكن والمستحيل، وكانت لديه نظرة مستقبلية للامور، وانه رغم قوة شخصيته لم يكن عنيدا، وكان يستمع لاراء من حوله، ويستجيب للافكار المخالفة له. اما شخصية مبارك، يضيف السمان، فيميزها العناد الذي استمر حتى اخر لحظة من حكمه، مشيرا الى ان نظرته للامور لم تكن مستقبلية، وانه كان يتدخل في جميع التفاصيل عكس السادات. أولم يقولوا ان الشيطان يكمن في التفاصيل. ان اسوء ما يمكن ان يميز رحلة حاكم في دواليب السلطة هو ان يحد نظره في ارنبة انفه، ويتعامل مع قضايا شعبه بدون استراتيجية مستقبلية تحدد خريطة طريق لحكمه.وقتها سيصبح رئيس بلدية وليس رئيس دولة. اما ثالثة الاثافي بالنسبة لاي حاكم فتكمن في خلو محيطه من مستشارين يتحلون بالحكمة، والجرأة في ابلاغ النصيحة الصائبة، ويعملون على الحيلولة دون انحراف الحاكم واساءته لنفسه قبل اساءته لشعبه ووطنه. فمبارك في العقد الاخير من حكمه بدا وكانه معزول عن شعبه بعد ان ابعد من حوله خيرة مستشاريه، وابقى اخرين لا يهمهم في الحكم سوى مصلحتهم الشخصية، وارضاء الرئيس اولا واخيرا، وعدم تعكير مزاجه بالانباء المزعجة. وفي غضون ذلك، لاحظ متتبعو الحياة السياسية المصرية غياب مستشار من طينة الدكتور اسامة الباز، الذي ترك بصماته على مسار الدبلوماسية المصرية على امتداد اكثر من ثلاثة عقود،عن محيط الرئيس، وبدت هذه الدبلوماسية جراء ذلك مترهلة وفاقدة للبوصلة، وغير قادرة على الحفاظ على فاعلية الدور المصري في منطقة الشرق الاوسط، وهو دور خرج عن الطريق المرسومة له، و لم يعد يشتم فيه دهاء وتخريجات ثعلب دبلوماسي مثل الباز، الذي يقال ايضا انه صاحب الفضل في تعلم مبارك فن العلاقات الخارجية. ان شخصية الباز التي عرفت بخطابها الاصلاحي، وشكلت نشازا في وسط سطوة "الحرس القديم "، الذي تمكن في النهاية من تقزيم دوره لدى صاحب القرار، تشكل نموذجا لعمى البصيرة التي يبتلى بها الحاكم الذي يسلم نفسه طواعية ،وفي غفلة من الزمن، لزمرة من المستشارين الانتهازيين والوصوليين والمنفعيين. لقد اصبح مبارك ،وهو راقد في سريره بمستشفى شرم الشيخ ،في حكم التاريخ ، مثله مثل سابقيه من رؤساء وملوك مصر ،نزل الرجل من سدة الحكم ليمتطي سدة الاحزان، ووجع الاخطاء، ويؤدي ضريبة سحر السلطة التي ذهبت الى غير رجعة، ولم يبق منها سوى النكت الطريفة الساخرة الكثيرة التي تؤرخ لحكم دام ثلاثة عقود .وتحضرني هنا نكتة، اختتم بها الحديث عن شجون السلطة وافراحها، وشخصية ومزاج الحاكمين، وهي نكتة تسخر من الزمن، ومن كل العهود، وتختزل مرحلة طويلة من تاريخ مصر. ويقول راويها انه في اول جلسة لافتتاح مجلس الشعب المصري في عهد مبارك، وبمجرد ما دخل الرئيس قاعة الجلسات العامة، قام نائب بضرب زميل له يمثل احدى دوائر الصعيد، بمنكبه لعله يستيقظ من نوم عميق . فتساءل النائب النائم وهو يفرك عينيه " فيه ايه ؟"، فقال له "أوم الريس وصل". فسأله النائب الصعيدي "ريس مين؟ "، فاجاب "الريس حسني مبارك"، فسأله "حسني مبارك مين؟" فأجاب "اللي خلف أنور السادات"، فسأله "سادات مين؟"، فأجاب"اللي خلف جمال عبد الناصر"، فسأله مرة أخرى "عبد الناصر مين؟"، فاجاب الاخر بثقة في النفس "اللي خلف الملك فاروق"، فسأله "الملك فاروق مين؟"، فقال "ابن الملك أحمد فؤاد". انذاك تساءل النائب الصعيدي باستغراب شديد: "الله ،هو الملك أحمد فؤاد خلف؟".