هناك تغيرات كمية ونوعية أحدثتها الهزات العنيفة في الجسم العربي الذي استكان زمنا طويلا، في ظاهره على الأقل، إلى الخمول. مهم طبعا أن تكسر هذه الانتفاضات حاجز الخوف وتنقل الرعب إلى أسرة الدكتاتوريات المتأصلة والقتلة، لكن الأهم من ذلك كله هي العلاقة مع الصورة التي تغيرت جذريا. فقد نشأت طريقة جديدة في التوثيق والجري وراء الحقيقية من خلال الصورة الملتقطة بالموبايل والأيباد، والأجهزة الذكية، أو ما يمكن تسميته بالإعلام الشعبي. لم يعد الجانب التقني فيها هو المحدد لقيمتها كما هي العادة، ولكن ما تحمله الصورة من شهادة ضد ما يحدث وكأنها العين الخفية الحاملة للحقيقة، في ظل المنع الرسمي للتصوير. أي أنها تضع أمام الناس ما تُمنع مشاهدته على الشاشات الرسمية. التليفزيونات العربية الرسمية أثبتت فشلها وهزالها في المتابعة وإعطاء صورة أخرى أكثر جرأة عما يحدث بالقرب منها، لأنها ما تزال مكبلة بشرطية الرسمي وتعيد إنتاج نفس الخطابات ونفس الممارسات الإعلامية البالية وكأن شيئا لم يحدث أمامها. لم تطور نفسها في زمن كل شيء أصبح يتحدد من خلال الوسائط الحديثة والسرعة في نقل المعلومة. طبعا، كل ما ينحز هو حامل لشيء ويُوجه نحو استهلاك معين. صحيح إلى حد كبير أن الذي جعل النظام يسقط قبل سنوات، في تونس ومصر تحديدا، هي الثورات السلمية الشعبية، ولكن الصورة المنقولة عن طريق الأجهزة الذكية، لعبت دورا مهما وأحيانا حاسما، مستفيدة من تجربة سابقة لها في إيران، أيام الانتفاضات الإصلاحية الكبرى. الصور الشعبية التي كانت تُبثُّ في القنوات كانت هي العامل الحاسم في عملية التجنيد. بينما ظلت القنوات الرسمية تعيش في عصر القناة الوطنية الوحيدة ونسي القيمون على الإعلام الرسمي أن المواطن العربي لم يعد رهين هذا المنطق الأحادي، حيث أصبح الزابينغ Zapping وتغيير مئات القنوات من مكانه، في لحظة واحدة وسيلته الاحتجاجية ضد كل ما هو رسمي. لم تعد تهمه رداءة الصورة تقنيا بقدر ما يهمه ما تخفيه من حقيقية. ليس غريبا أن تكون الوسائط الاجتماعية الحديثة كالنت، والتويتر والفيسبوك واليوتوب وغيرها قد لعبت الدور الحاسم في التجنيد وتمرير الخطاب المراد. كل شيء تغير في محيط هذه العمليات التواصلية إلا التليفزيونات الرسمية المستقرة في نظامها الميت؟ من السهل أن تكيل كل تهم الدنيا ضد القنوات العميلة؟ ولكن من الصعب أن تشتري المصداقية المفقودة. فالمواطن، حتى الأكثر ارتباطا بقناته الوطنية، يضطر في النهاية إلى البحث عن المعلومة في أمكنة أخرى مسماة عدوة، ليفهم على الأقل ما يحدث في أرضه، وربما بجانب بيته. المشكلة في النهاية هي مشكلة عقل حاكم، معطل، ما يزال يشتغل وفق نمطية لم تتحرك كثيرا عن نظامها الأول بكل ما يحمل هذا النظام من تخلف ومصالح مادية ومكاسب صغيرة. بالمقابل، هناك الكثير القنوات العربية والأجنبية التي تستلم مادتها مباشرة من الأجهزة الذكية، تظهر جانب جرائم النظام من خلال آلاف الصور التي لا نعرف مصدرها ولا توجد أية إشارة لذلك، كما عودتنا هذه القنوات نفسها. هناك ضياع للمتفرج وسط هذه الحرب المفتوحة التي أصبحت الغلبة فيها دائما للصور الحرة والإعلام الشعبي، لأن كل ما يقال عن الأنظمة العربية محتمل الوقوع وتحتاج هذه الأنظمة إلى جهد مضاعف ومصداقية أكبر، وصور أكثر ذكاء لتستطيع أن تقنع الناس وتغير في ميلان الكفة. العامل الحاسم في هذه الصور مجتمعة هو قوتها ومباشرتها وتأثيرها على المشاهد حتى ولو كانت غير متقنة الصنع والإخراج، يبررها صدقها وخوف التقاطها. صورة القتل على المباشر كما في الألعاب، أيام الثورة المصرية، في الإسكندرية لمن لهم ذاكرة، كانت مرعبة. المرأة التي تنظر من الطوابق العلوية لتصور خفية شراسة البوليس فتجد نفسها تصور شابا يسير بصدر مفتوح نحو الشرطة قبل أن تطلق عليه هذه الأخيرة النار وترديه قتيلا. ثم صرختها ورعبها. كان ذلك المشهد كافيا ليلغي الحِرَفية ويضعنا أمام صور شعبية قاسية. أكبر قيمة للصورة أنها تقع خارج الرقابة؟ ولكن هل هذا أيضا صحيح بالكامل بالخصوص في غياب المصدر؟ لأن هذه الصور تمر أيضا عبر رقابة غير مرئية وإلا سنكون أغبياء إذا اعتبرناها عفوية كليا، رقابة تُظهر منها ما تشاؤه ويخدم مشروعها وتهمل ما لا يستجيب للخط المتبع. المشكل الأكبر في المعادلة هو الجمهور المتلقي الذي لا يملك عينا ناقدة وعلاقته بالصورة غير متطورة وتلتقط كل شيء على أنه حقيقة مطلقة ينشئ من خلالها حكما خاصا. فتتم بالتالي صناعة رأي عام قد لا يكون صحيحا لأن الكثير من الصور الحقيقية ستظل غائبة، ولن تظهر إلا بعد سنوات مثلما حدث في رومانيا، في تيميشوارا مثلا في القناة الفرنسية الخامسة، التي بثت يومها صورا لجثث متراكمة على أساس أنها من فعل نظام تشاوسيسكو قبل أن يتضح أن الأمر مركب تركيبا مفضوحا وأن الجثث جيء بها من مقابر مختلفة. لكن لا قيمة لهذه الحقيقة المكتشفة عمليا، لأن الصورة التركيبية أدت غرضها ووظيفتها بإسقاط النظام وكل ما يأتي لاحقا لا تأثير له؟ وربما خطر الصورة هو هنا في ظل غياب صور بديلة تستطيع أن تخلق توازنا وتمنح المتفرج فرصة أخذ الأشياء بنسبية.