لا يبعد مطعم العمّ "البياري" للأكلات الشعبية سوى أمتار معدودة عن الناحية الشمالية لمقرّ المجلس التأسيسي التونسي، الذي بات طيلة السنوات الثلاث الماضية بمثابة "مزارا" تفد إليه الوفود السياسية من كل بقاع العالم، ومركزا تطوف من حول قبّته قوافل المحتجين والمتظاهرين التونسيين من أجل مطالب مختلفة، من الصعب إحصائها. هذا الحراك السياسي والاجتماعي الذي خلقه المجلس التأسيسي منذ انتخاب نوابه نهاية عام 2011 كسلطة مركزية في البلد تصوغ دستوره وتسيّر شؤونه، بثّ الروح من جديد في مدينة باردو غربي العاصمة تونس (حيث مقرٌ البرلمان) وخلق حركة تجارية استفادت منها المحلاّت والمطاعم المجاورة لساحة باردو. والعمّ "البياري"، هو صاحب المطعم الشعبي الأشهر في مدينة باردو، لا يُخفي في حديثه للاناضول بهجته ب" النشاط والحركة" التي عادت الى باردو منذ قيام ثورة 14 يناير / كانون الثاني 2011 وخاصة بعد انتخاب المجلس التأسيسي. ويقول: "تحررت النفوس من الكبت الذي فرضته ديكتاتورية النظام السابق (نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي)، واستعادت الساحة الرئيسية بالمدينة ايقاعها المعهود كونها مقصدا للعائلات والاطفال والطلبة، كما أنها صارت مقصدا شبه يومي لآلاف المحتجين والمتظاهرين من أجل مطالبهم السياسية والاجتماعية المختلفة". ولا ينكر العمّ "البياري"، الرجل الخمسينيي الذي يحظى بشعبية كبيرة، استفادته كصاحب مطعم شعبي من هذا الحراك، وما وفره له من أرباح إضافية، سيٌما أيٌام الاعتصامات والمظاهرات الكبرى أمام مقرّ المجلس التأسيسي. كما لا يختلف سكّان العاصمة تونس، في كون " مطعم العمّ "البياري" من المختصين المميزين في إعداد " الكفتاجي"، الأكلة الشعبية المفضّلة لدى التونسيين، والتي يُولونها مقاما خاصّا إلى درجة أنها تعدّ من أبرز مميزات المطبخ التونسي . ويتكوّن "اِصحيّن الكفتاجي" (كما يفضّل التونسيين تسميته باستعمال صيغة التصغير لكلمة صحن)، أساسا من الطماطم والفلفل الحار المقليين، وتضاف إليهما "الهريسة التونسية" (الشطّة ) إلى جانب البيض المقلي ويتم خلطهما وتقطيعها في وعاء كبير، وعادة ما تلفت علمية تقطيع خضروات "الكفتاجي" انتباه الحرفاء (الزبائن) من خلال الصوت الذي يحدثه وقع السكاكين الحادّة على الوعاء الحديدي الذي تخلط فيه الطماطم والفلفل الحار بالبيض. ويقع تقديم "صحن الكفتاجي" مرفوقا بصحن آخر من البطاطا المقلية والفلفل المقلي، ويُأكل بالخبز العربي (خبز تونسي خاص) أو" الباقات "، ويقدّر ثمنه بحوالي 1دولار ونصف. ويصرّ التونسيون على أكل " الكفتاجي" حارّا، بل وكلّما كان مذاقه " حارّا " كلّما كان طعمه أحلى. ويشتغل العمّ البياري كل أيّام الأسبوع ما عدا الأحد، من الساعة السادسة صباحا إلى حدود الثانية ظهرا بالتوقيت المحلي التونسي (من 5:00 إلى 13:00 تغ)، مع إنتهاء الوقت العادي للغداء، وهو محافظ على هذا النسق في العمل منذ حوالي 19 عاما. ويبدأ الحرفاء (الزبائن) منذ الساعة التاسعة صباحا في التوافد على المطعم، إلى حين منتصف النهار حيث يبلغ العمل ذروته، مع قدوم "الزبائن الأوفياء" للمطعم الاكثر شعبية وشهرة في المنطقة، وعادة ما يكون الزبائن من سكّان الأحياء المجاورة ومن الموظفين الذي يشتغلون في المؤسسات والمحلاّت القريبة من ساحة باردو والمحيطة بمقرّ المجلس التأسيسي. بل وأكّد عدد من العاملين في المطعم لمراسل الاناضول أن سياسيين ونواب من المجلس التأسيسي عادة ما يأتون في مناسبات متواترة لأكل الكفتاجي من البيّاري. ويقول البيّاري إنّه ملتزم ب" دفع جميع الضرائب المترتّبة عليه للدولة "، كما يدفع حسابات التأمين الصحي والاجتماعي للعمال الذين يشتغلون معه، وأنّه يوفّر بمطعمه الصغير (حوالي 50 متر مربع) مورد رزقٍ لخمسة عائلات. ويضيف: "لقد علّمت طيلة السنوات الماضية عشرات الشباب مهارات هذه المهنة، ومنهم اليوم من بادر بفتح مطعمه الخاصّ في أماكن مختلفة من محافظات البلد". وينتظر البيّاري قدوم الصيف الذي يتضاعف فيه العمل وينمو فيه الكسب بسبب الحركية التي تشهدها باردو خاصّة مع عودة التونسيين المقيمين في الخارج والذي يتهافتون على أكل الأطعمة الشعبية". وعن السرّ الذي جعل مطعما شعبيا بسيطا، في إحدى زاويا مدينة باردو يحظى بشهرة واسعة، يشير البيّاري إلى أن " الخلق الجميل، العمل المتقن، الثمن الزهيد، وخاصّة التوفيق من عند اللّه الذي ضاعف لنا الرزق بفضل الحراك السياسي والاجتماعي حول المجلس التأسيسي".