لقد أضحت "شنزن" بحق مثالا على تطور الصناعة الصينية، ودليلا على استفاقة التنين الآسيوي من سباته الطويل، متفوقا على دول كانت إلى الأمس القريب تنظر إلى الصين نظرة المشفق من تخلفه الحضاري والاقتصادي، لكنها اليوم تعيش عالة على ما يجود به في مجالات الصناعة والتكنولوجيا وتتمنى اللحاق بركبه. الزائر إلى "شنزن" الصينية يهوله ذلك النماء العمراني الذي يملأ المدينة المحاذية لهونغ كونغ طولا وعرضا، ولا يصدق المرء عينيه وهو يرى أن كل تلك البنايات العملاقة والطرقات الفسيحة والجسور المتينة والأنفاق الممتدة قد جرى تشييدها في ثلاثين عاما فقط، وقت استغرقه للعلم إنجاز سبعة كيلوميترات من مشروع ميترو الجزائر الذي لم يكتمل بعد. ليس ما يثير الإعجاب في "شنزن" كمُّ ما بني في هذه المدة القصيرة، بل جودة وجمال ومتانة الإنجازات التي تنم عن تخطيط عمراني فائق، ورؤية مستقبلية بعيدة لمن وضع حجر الأساس من أول يوم أريد فيه ل«شنزن" أن تغير وجه الصين الحديثة وتمحو عنها آثار سنوات الفقر والتخلف. لابد لهذه العبقرية التي شيّدت "شنزن" من سر؛ والسر قد لا يستغرق وقتا طويلا لكشفه، فوجوه الصينيين كتب مفتوحة تستطيع من خلالها أن تفك أسرار العبقرية التي صنعت معجزتهم.. حياتهم اليومية، طريقة تعاملهم في الأسواق وسلوكهم في الشوارع.. تدل على أنهم شعب خُلق ليعيش منظما.. الصينيون يمقتون الفوضى بكل أشكالها ومعانيها.. فمن لا يحترم موعده فوضوي ليس جديرا باحترامهم، ومن يتخلف عن إنجاز عمله في وقته فوضوي لا يستحق العيش بين ظهرانيهم.. لكن النظام وحده لا يكفي ليبنى ما بُني، إذ لابد له من إتقان العمل.. والإتقان في عالم اليوم تحوّل إلى علم يضع القواعد والمعايير للمنتوج الجيد. والصينيون من كل ذلك مواكبون لما يتلى في أرقى جامعات العالم، بل في كثير من العلوم سابقون لعصرهم. وادي "السليكون" يغيّر مجراه! إن كنت منبهرا بهاتف "آيفون" الأمريكي، أو أصبحت غير قادر عن مفارقة هاتف "غالاكسي" الكوري، وكنت بين هذا وذاك "تتندر" عن الهاتف الصيني الرديء أو المغشوش.. عليك أن تراجع حساباتك، ف«الأيفون" و«الغالاكسي" يُصنعان في "شنزن" الصينية وينطلقان منها إلى الجهات الأربعة في الكرة الأرضية. كعبة الإلكترونيك في العالم غيّرت قبلتها، وأضحت اليوم منتصبة في "شنزن"، وإليها تفد الوفود من كل حدب وصوب، لاختيار الهواتف والكمبيوترات الأجود، كل حسب ذوقه وحسب "فلوسه". الصين لم تعد موطن الخردة كما سُوّق لنا خلال عقود؛ أصبحت اليوم موطن آخر ابتكارات التكنولوجيا.. المصنّعون من دول العالم يقصدونها للإنتاج، والتجار يسافرون إليها من أجل التبضّع واقتناص الفرص الثمينة. مع كل ذلك العمران، "شنزن" ليست سوى المدينة الرابعة في الصين من حيث الأهمية، بعد بكين وشنغهاي وكانتون. الطفرة الاقتصادية في "شنزن" حوّلتها إلى مدينة فاحشة الثراء، فالناتج الخام للمدينة بلغ 135 مليار دولار في 2010، بمعدل نمو 10,7 بالمائة عنه في 2009. التجارة الخارجية في "شنزن" ارتفعت إلى 4,6 بالمائة، والصادرات زادت ب6,6 بالمائة إلى ما يصل 180 مليار دولار، تُمثل التجهيزات والمنتوجات الإلكترونية 77 بالمائة منها بقيمة 140 مليار دولار. واللافت أن الصادرات المرتبطة بالتكنولوجيا تشهد ارتفاعا قياسيا بنحو 13,5 بالمائة بما يقترب من 90 مليار دولار، أي ما يفوق مجمل الصادرات الجزائرية للبترول في السنة. في سنة 2007، حققت "شنزن" الرقم القياسي من حيث دخل الفرد الذي بلغ 33839 دولار. الاقتصاد في "شنزن" مصمم وموجه للتصدير، 180 مليار دولار صادرات مقابل 120 مليار دولار واردات، وهو يرتكز على أربعة أعمدة: التكنولوجيات الدقيقة والصناعة المالية والخدمات والسياحة. انتعاش القدرة الشرائية لمواطني "شنزن" أدى إلى ارتفاع تكاليف اليد العاملة، فباتت تتخصص بشكل أكبر في التكنولوجيات الدقيقة خاصة الاتصالات والبيوتكنولوجيا والخدمات. تحتضن "شنزن" اليوم الحظيرة الصناعية للتكنولوجيات العالية، وهي تتربع على مساحة شاسعة تجمع مقرات ومصانع كبار الشركات الصينية والعالمية في مجال التكنولوجيات بأنواعها، مثل شركة "زاد تي أو" و«هواوي" و«سكاي وورث" و«تي سي ال" المتخصصة في الاتصالات، وشركة "كونكا" لصناعة التلفزيونات، كما تضم أيضا بورصة "شنزن" وهي الثانية في حجم التداول في الصين بعد شنغهاي. "خواشنبي" تشدّ عضد الصناعة في "شنزن" الصناعة القوية والإنتاج الغزير لا يمكن لهما الاستمرار دون وجود حركية تجارية نشطة. مصممو "شنزن" أدركوا ذلك، فجعلوا في أطراف مدينتهم حظائر صناعية، لا تتوقف آلاتها عن الهدير في النهار أو الليل، وبنوا في قلبها مركزا تجاريا عملاقا، إليه تُصرف المنتوجات فتعرض في شكل أنيق يجعل من زائره لا تعلم يمينه كم أنفقت شماله. "خواشنبي" هي القلب النابض للتجارة وسيولة المال في "شنزن"، فيها من المراكز التجارية ما لا يمكن عدّه أو وصفه. ناطحات سحاب عملاقة، مصممة على الطراز الغربي الحديث، مكتظة بداخلها بمحلات الماركات الصينية والعالمية، وفيها يباع كل شيء من منتوجات الإلكترونيك إلى الملابس والحلي والعطور وحتى أكلات الشواء.. إن كنت تبحث عن سلعة في "خواشنبي" ولم تجدها، فاعلم أنك لا تجيد البحث، ولا تفكر أبدا في أنها غير موجودة كما يذكر مرافقنا الصيني. مع تشعب طرقات "خواشنبي" وكثرة بناياتها الشاهقة وتعدد مداخلها ومخارجها، لا يستغني زائرها عن هاتفه الذكي المفتوح على تطبيق "غوغل" للخرائط، حتى يستطيع تدبير نفسه إن هو تاه في خضم زحمتها وما أسهل التيه في "خواشنبي". ميزة أو عيب التسوق في "شنزن" أنه يجعلك محتارا ماذا تشتري وماذا تترك. إن لم تحدد غايتك قبل دخول "خواشنبي" فستضيّع وقتك وجهدك كله في مقارنة السلع والتردد حولها. هنا كل شيء متوفر وبخيارات أسعار لا تنتهي. أحيانا تجد سلعة تحسبها في متناولك ثم تتفاجأ لسعرها المرتفع. كتلك البذلة التي يصل سعرها إلى 2400 يوان، 300 أورو، أو ذلك الكمبيوتر الصغير الذي تفوق قيمته 4000 يوان، 500 أورو.. وبالمقابل، تعثر على السلع الرخيصة التي تستطيع أن تقتنيها وأنت مطمئن أنك حققت صفقة رابحة. للابتياع في "خواشنبي" وجه آخر من المتعة.. حين تجذبك السلعة وتستقر على أمر شرائها، تبدأ مرحلة التفاوض على السعر. أغلب الباعة الصينيين يفكّون معاني كلمات قليلة من الإنجليزية، وحين تسألهم عن الثمن يهرعون إلى آلاتهم الحاسبة لرقن السعر المطلوب. إن لم تكن ماهرا في التفاوض فستقع سريعا في الفخ، لأن البائع الصيني يطلب في البداية سعرا خياليا، ثم سرعان ما يرضخ لنصف السعر المطلوب أو أقل منه بكثير، إذا هددته بالانصراف دون السلعة. رغم ذلك لا تفارق البسمة وجوه باعة المحلات في "شنزن" حتى وإن لم يتمكنوا من إقناعك بالشراء. بحث في فائدة الشرطة! غريب هوس الصينيين بالنظام، وكأنهم يولدون حاملين في خلاياهم كروموزومات احترام إشارات المرور والتقيد بآداب السير واحترام الأخلاق العامة. حتى عندما تنظر إلى زحمتهم في الأزقة والشوارع تجد أنها تسير في انسيابية وانتظام، تختلف عن الفوضى التي تعوّدنا عليها نحن. التجول في "شنزن" بالحافلة يمنح للمسافر قدرة على التأمل وملاحظة حركة البشر. من النافذة تلمح تجمعا بشريا عند إشارة الضوء الأحمر في الطريق، ثوان ويشتعل الأخضر فترى الموجة البشرية تكتسح الطريق. منظر المارة الذين يقطعون الطريق جماعيا دون أن يتجرأ أحد على خرق هذه القاعدة يتكرر في كل طرقات "شنزن"، وهو مثير للإعجاب والتساؤل في الوقت نفسه. هل هؤلاء بشر مثلنا أم آلات مبرمجة؟ أم ترانا نحن الذين بُرمجنا على الفوضى وندّعي أننا نتصرف بتلقائية وعفوية؟ لا يوجد في "شنزن" شرطي واحد ينظم المرور. أليس غريبا ذلك؟ للصينيون حقا قدرة عجيبة على تنظيم أنفسهم بأنفسهم، لا يحتاجون إلى الأزياء الرسمية في الطرقات، فهم يستغلون القوى العاملة فيما يزيد من ازدهارهم وتطورهم. أما المارقون والمخالفون وما أندرهم، فلهم الكاميرات المزروعة في كل مكان من "شنزن" فتحوّلت بفضلها إلى مدينة آمنة، التجوال فيها ليلا لا يختلف عن النهار. عقوق النظام العام في "شنزن" ضريبته مكلفة جدا لصاحبه، قد تصل إلى الإعدام، حسب ما قاله لنا الصينيون، لذلك لا تسمع إلا نادرا عن جرائم الأفراد كالسرقات والاعتداءات. هذا لا يعني أن الصينيين ملائكة، ولكن يبدو أنهم منظمون حتى في الجرائم، فالعصابات المنظمة هي المرادف للجريمة في الصين، وليس جرائم الأفراد كما يحدث في الجزائر العاصمة. ما يساعد على فرض النظام في "شنزن" أيضا هو تمتعها ببنية تحتية قوية في مجال المواصلات، فالميترو يخرق المدينة طولا وعرضا، وحركة البشر تحت الأرض تتفوق على الحركة فوقها، إضافة إلى أن ترامواي المدينة يعدّ تحفة هندسية نادرة، إذ تراه يسير فوقك معلّقا من نوافذ الفندق على سكك شُيدت خصيصا لاحتضانه، وهو يربط ضواحي المدينة بمركزها. وما يثير الإعجاب هي نوعية الطرقات الممتازة، والجسور والأنفاق التي تريح السيارة وراكبيها مهما زادت السرعة. أما عن الازدحام فهو موجود ولكن في أوقات الذروة فقط كحال كل المدن الكبرى في العالم، ومع ذلك فالصينيون يبدون وعيا في الاعتماد على السيارة التي تكلفهم غاليا، لذلك هم يقتصدون في استعمالها إلى أقصى حدّ ما دامت وسائل النقل العمومية متاحة في كل الأوقات. في "شنزن".. أنت لست غريبا عن وطنك استغراق الصينيين في العمل من الصباح الباكر إلى غروب الشمس، طيلة أيام الأسبوع، يجعلهم تواقين في أيام العطل والفراغ إلى تجديد نشاطهم وحيويتهم. هذه الحاجة الفطرية للإنسان في الترفيه والمتعة، هي البعد الغائب عن حواضرنا التي تتحوّل إلى مدن أشباح في الليل. لكن "شنزن" ليست كذلك، إنها المدينة الساهرة ليلا والمبتسمة نهارا، بفضل ما تحويه من فضاءات للترفيه تُقوي من حميمية البشر وارتباطهم ببعضهم وبثقافتهم. الزائر إلى "شنزن" لابدّ أن يتوقف في "سبلنديد أف شاينا"، مقصد سكان المدينة وسياحها القادمين من كل حدب وصوب. في هذا المكان، تُحكى حضارة الصين العريقة بألوان زاهية تبعث في النفس جوا من البهجة. إنها طريقة مشوقة لسرد التاريخ الجاف إلى صغار الصينيين حتى يعتزوا بثقافتهم وتاريخهم. هنا ثمانون متحفا ومنزلا يصور مناطق الصين الممتدة في أرجاء هذا البلد الفسيح. تماثيل من حضارة التبت التي يتمسك الصينيون باعتبارها جزءا من تاريخهم رغم النزاع، ومعابد تصور طقوس التعبد في مختلف مناطق الصين. عارضون يلبسون الأزياء التقليدية، ومنهم من يقود درجات عجلاتها مرتفعة عن الأرض تجوب المكان لاستيقاف السياح الراغبين في صور تخلد ذكرى مرورهم. ما يضفي على المكان ألقا زائدا، هو تلك الخضرة المنبسطة في أرجائه.. البيئة يبدو أنها لم تغب عن بناة "شنزن" الذين استطاعوا كسوتها بالأخضر في كل ركن منها، حتى يدفعوا عن بلادهم سمعة التلوث السيئة التي تلاحقه كضريبة جانبية من آثار تطوره الصناعي المذهل. ليس تاريخ الصين وحده وسيلة الترويج لروعة "شنزن"، فالاقتباس من روائع العالم الأخرى أيضا يصلح لذلك. في منطقة "نانشان" ب«شنزن" مكان نادر يسمى "ويندوز أف ذوورد"، فيه يرتفع برج إيفل الباريسي وعجائب العالم السبع، وحوالي 130 موقع سياحي عالميا أعيد تصميمه في 40 هكتارا تختصر العالم، وتنقل سائحه من أعجوبة إلى أخرى مسافرا في الزمان والمكان دون أن تغادر قدماه "شنزن". الحظيرة المائية في منطقة "شاميشا" متنفس آخر لسكان "شنزن"، فيها تبدع حوريات الماء الروسيات في أداء رقصات مائية وسط الأسماك العائمة وتحت إيقاعات هادئة يتجاوب معها جمهور المكان. "كيو كيو" غائبة عن طرقات "شنزن"! الصناعة والتكنولوجيا والثراء عوامل تحقق رفاهية الإنسان، لكن لها بالمثل ضريبة يجب دفعها. "شنزن" الثرية جدا أثرت على المجتمع الصيني في نمط عيشه وسلوكه. هنا ثقافة الاستهلاك على النمط الغربي أصبحت تسكن هذا الجزء الحالم من الشرق. المترجل في الشارع يلحظ غياب النسوة اللائي يرتدين اللباس الصيني التقليدي، ويلمح بكثرة تسريحات الشباب المقلدة للصيحات الآتية من بلاد العم سام، وحين تسأل عن السبب يجيبك المجيب أن المدينة في الصين أضحت تواكب مدن الغرب في العمران والتجارة والنشاط، فما المانع أن تواكبها في اللباس والثقافة وحتى الطعام! الأصالة الصينية يبدو أنها لا تزال تسكن الأرياف فقط. تصادف وجودنا في فندق "سي فيو" الجميل مع احتفالات "الكريسمس".. مناسبة دينية للمسيحيين، لكن الاحتفال بها في بهو الفندق كان صاخبا.. أطفال صغار يرتدون ملابس بألوان زاهية ويُنشدون للمسيح، أمام أنظار أوليائهم الذين كانوا يوثقون تلك اللحظة بكاميراتهم وهواتفهم. فئة لا بأس بها من سكان المدن في الصين بلغ بها الانبهار بالغرب إلى حدّ ترك تعاليم بوذا وكنفشيوس واتخاذ الإنجيل طريقا للخلاص في الحياة على حدّ اعتقادهم. لكن مع ذلك خفف مرافقنا من قوة المشهد، قائلا إن هؤلاء ليسوا مسيحيين بالعقيدة إنما يحتفلون فقط بمناسبة صارت كونية.. وحتى المسيحيون الجدد في الصين ليسوا معتنقين للعقيدة النصرانية بقدر ما هم مسيحيون بالاسم والشكل فقط! أما المسلمون في المدينة فهم صينيون بالأصول، أو مغتربون من الجزائر وتركيا وغيرها من الدول استقروا في المدينة وأنشأوا بها مطاعم ومحلات للاسترزاق. في طرقات "شنزن" بإمكانك أن تستشف مظاهر الطفرة الاقتصادية التي حققتها المدينة. سيارات فارهة من ماركات ألمانية وأمريكية ويابانية ونادرا الفرنسية تجوب الطرقات، ولا أثر لسيارة "كيو كيو" "الرخيصة" التي تُنتجها الصين وتسوقها للدول ذات المستوى المنخفض من القدرة الشرائية كالجزائر مثلا.. حتى السيارات الصينية التي مرت علينا كانت تبدو عليها علامات الجودة عكس المتداول عنها.. بيد أن "شنزن" قد تكون الاستثناء، إذ لازالت السيارة في الصين وسيلة باهظة الكلفة، فسعر الطاقة مرتفع للغاية وملأ خزان الوقود قد يكلف صاحبه 100 دولار! "الحلم" الصيني و"الكابوس" الجزائري! حين تكون جزائريا وتحمل في عقلك الباطن رواسب حديث المسؤولين عن أن بلادنا يُنجز فيها الأطول والأضخم والأكبر في العالم، ثم تسافر إلى بلاد العالم، فترى المعنى الحقيقي للتنمية، توقن أن ذلك الكلام محض افتراء فتزداد كفرا به، وتكاد تصاب باليأس من حال البلاد والعباد لولا فسحة الأمل. "شنزن" ازدانت بها خريطة الصين في ثلاثة عقود فقط، بينما ظلت المدينةالجديدة في "بوغزول" مجرد حلم طوباوي سُوّق لمساكين الجزائريين، ملتهما ملايير الدولارات دون أن ير النور بعد. لا أثر لمدينة "بوغزول" التي قيل إنها ستكون عاصمة للجزائريين حين تم إطلاق "وهمها" أو مشروعها، حتى على صفحة "ويكيبيديا"، بينما "شنزن" اليوم تُغري الباحثين بإجراء دراسات مستفيضة لمعرفة "كيمياء" الخلطة التي مكّنت الإنسان الصيني من بنائها. الصينيون إذا عزموا فعلوا ونحن نبيع الكلام للناس ولا نبالي بعواقبه الوخيمة على شباب أصبح يلقي بنفسه في غياهب الموج هربا من مفارقة معسول الكلام الذي يسمعه وجحيم ما يراه واقعا، كما يستنتج علماء الاجتماع. لا يمكن تعطيل ميكانيزمات المقارنة في عقل الجزائري الذي يسافر إلى بلاد العالم، حتى وإن كانت هذه المقارنة مؤلمة له لأنها تصبّ غالبا في كفة الآخرين. معلوم أن الجانب الأمني والتنظيمي يكتسي أهمية بالغة في أي مدينة، ولكن المقاربات في فرض الأمن تختلف. هناك مدن تعيش بأمن ونظام وهدوء دون شرطي بالبزة الرسمية يسير في الطرقات، وهناك مدن مثل الجزائر العاصمة لا يخلو فيها زقاق أو حارة من شرطي، ولكن السير فيها ليلا مستحيل وحروب الشوارع بين أبنائها لا تتوقف! ليس صحيحا أن تحقيق "شنزن" لطفرتها العمرانية والاقتصادية قد أوصلها إلى درجة الكمال، فهي مدينة لا تتوقف فيها الأشغال ليلا أو نهارا. بيد أن اللافت عند المقيم أو الزائر للمدينة، هو تلك الاحترافية التي تتم بها الأشغال، بحيث لا تتعطل حركة السير ولا يتضرر المواطن من ضجيج الآلات والحفارات. في الطرقات عوازل لونها أحمر، قيل لنا إنها تخفي تحتها مشاريع للسكك والميترو التي يجري تشييدها، يظنها الرائي من الوهلة الأولى أنها للزينة وليس للأشغال، خاصة إذا كان من الذين اعتادوا المرور على جحيم إنجاز جسر تقاطع الطريق السيّار مع سكة الحديد التي تربط بئر توتة مع زرالدة. أحيانا يختصر مشهد بسيط مسألة قد تعجز نظريات بأكملها عن تفسيرها. هي لقطة لسيدة في الشارع تقود دراجتها الهوائية وتسير بابنها الذي يجلس في المقعد الخلفي. إلى هنا يبدو المشهد عاديا، لكن غير العادي أن ذلك الابن الصغير كان يحمل بين يديه كتابا يطالعه. تقديس العلم أحد أسرار نجاح الحلم الصيني، أين وليت وجهك في ميترو الأنفاق تجد المطالعين لكتب ورقية أو أخرى إلكترونية. سلوك التلاميذ بمحفظاتهم خارج المدرسة يبعث في المتأمل شهية طلب العلم، وكأن هؤلاء الصغار بلغوا من الوعي بمكانة العلم في مستقبلهم ما جعلهم يستثمرون كل دقيقة وثانية في طلبه. مشهد ثان يشد إليه ناظره في "شنزن".. حين كنا نهمّ بالخروج من مصنع شركة الاتصالات "زاد تي أو" بعد أداء الزيارة، كان في الوقت ذاته شبان يبدو من ملامحهم أنهم في سن المراهقة يدخلون المصنع. استبد بي الفضول الصحفي لأعرف من يكون هؤلاء وماذا يريدون بدخول المصنع في هذا الوقت المتأخر من المساء.. أجابني المرافق: إنهم شباب أكملوا تعليمهم التقني في الثانويات ويأتون للعمل في المصنع والتدرب على استعمال الآلات، فالصين لديها نظام مرن يمزج بين المدارس والجامعات وبين المعامل والمصانع، إذ لا جدوى من تعليم نظري لا يتقن صاحبه تطبيقه العملي، ولا ينفع كذلك عامل يفتقر إلى الأساس النظري في تكوينه.. التناغم هنا بين العلم والعمل في أوج انسجامه. مشهد ثالث هزّني.. التقاليد عند الصينيين ليست فلكورا وأزياء ورقصات وموسيقى فحسب، فللمؤسسات بالمثل تقاليدها التي تحفظ السر الكامن وراء نجاحها. جناح واسع وفسيح في مقر مؤسسة "زاد تي أو" التي زرناها مخصص فقط لسرد المحطات التي عايشتها مذ كانت في بداية المشوار إلى أن أصبحت تشتغل فيما يربو عن المائة والأربعين دولة. في المعرض صور للرجل المؤسس، يظهر في إحداها وهو ينتعل خفا بسيطا يثير في ناظره الشفقة.. لم يكن "هو ويغي" مؤسسها يملك من الوقت ما يجعله يقتني اللباس الفاخر الذي يوحي في عرفنا إلى كاريزما المديرين والنافذين.. غير بعيد عن الصور، رُكنت على الجانب سيارة المرسيدس الأولى التي ركبها الأب المؤسس، وقد اشتراها من سوق السيارات المستعملة ولم تُشتر إلا لاستقبال العملاء الأجانب الذين أصبحت تتعامل معهم المؤسسة بعد شهرتها.. كل ذلك يرسم الوجه الخفي لنجاح المؤسسة العالمي، ومن ورائها الاقتصاد الصيني. غريب هوس الصينيين بالنظام، وكأنهم يولدون حاملين في خلاياهم كروموزومات احترام إشارات المرور والتقيد بآداب السير واحترام الأخلاق العامة. حتى عندما تنظر إلى زحمتهم في الأزقة والشوارع تجد أنها تسير في انسيابية وانتظام، تختلف عن الفوضى التي تعوّدنا عليها نحن. استبد بي الفضول الصحفي لأعرف من يكون هؤلاء وماذا يريدون بدخول المصنع في هذا الوقت المتأخر من المساء.. أجابني المرافق: إنهم شباب أكملوا تعليمهم التقني في الثانويات ويأتون للعمل في المصنع والتدرب على استعمال الآلات، فالصين لديها نظام مرن يمزج بين المدارس والجامعات وبين المعامل والمصانع، إذ لا جدوى من تعليم نظري لا يتقن صاحبه تطبيقه العملي، ولا ينفع كذلك عامل يفتقر إلى الأساس النظري في تكوينه.. التناغم هنا بين العلم والعمل في أوج انسجامه.