جرت العادة مع نهاية عام وبداية آخر أن تجري وسائل الإعلام وراء حصاد العام وشخصية السنة؛ جزء من الموضوع أن يكون في الأمر بعض من المنافسة التي يتسع مجالها تدريجيا حول أفضل الأغاني والأفلام والكتب والروايات، وهكذا في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الافتراض مفتعل بطبيعة الحال؛ لأنه قائم على قطيعة زمنية بين يوم وآخر، وسنة وأخرى، وأحيانا ولأغراض تجارية بحتة، بين الثواني التي تسبق نهاية العام وتلك التي تلحقه. وفي آخر التقاليع على أسطورة الأيام فإن الاحتفالات تبدأ من حيث تشرق الشمس لأول مرة على جزيرة مجهولة في المحيط الهادي، ثم تأتي على نيوزيلندا واليابان، فندخل في نطاق المعمورة، وبعد ذلك للعالم المدهش في الصين وروسيا، حيث تحتفلان بعيد رأس السنة تسع مرات حسب المناطق الزمنية التي تشغلها مساحتهما الشاسعة. الغريب والمدهش في الأمر، أن أسطورة السنة تبدو غير حقيقية، وفي تقرير نشرته «STRAFOR Global Intelligence» عن «الجغرافيا السياسية للسنة الغريغورية»، وهي السنة التي تتبعها معظم دول العالم، والتي بها ال12 شهرا التي نعرفها من يناير (كانون الثاني) إلى ديسمبر (كانون الأول)، والمقسم كل منها إلى أسابيع كل منها سبعة أيام، وهكذا تقسيمات حتى نصل إلى الثانية، هذه السنة وضعها بابا الكاثوليك غريغوري الثالث عشر في عام 1582، ولكنها لم تأخذ صفتها العالمية إلا عندما تبنتها إنجلترا في عام 1752. قبل ذلك كانت «السنوات» متعددة، فقد عرف المصريون القدماء سنتهم على أساس فيضان النيل ومواسم الزراعة، وفيما بعد عرف اليهود عامهم، إلا أن أول الأعوام التي عرفت نطاقا عالميا فقد نسبت إلى «يوليوس قيصر» وانتشرت بين أرجاء الإمبراطورية الرومانية. عرف الصينيون عامهم، وكذلك العرب والمسلمون الذين استندوا إلى التقويم الهجري. كل هذه التقويمات اعتمدت على حركة القمر والشمس أو مواسم الزراعة أو التجارة والحصاد، وكلها لم تحسب السنة حسابا دقيقا، وحتى الحساب الغريغوري الأقرب إلى الصحة في تحديد زمن العام، والذي حل معضلة ربع اليوم الفائض من حركة الأرض حول الشمس من خلال التلاعب بشهر فبراير (شباط) فيكون له شأن في السنوات الكبيسة تختلف عن غيرها، فقد ثبت أن 26 ثانية تظل مفقودة من عمر البشرية، وهذه سوف يجري حسابها وضمها إلى العمر بإضافة يوم كامل كل 3323 عاما. بقي عام مضى، ومعنا عام مقبل، وقد يكون الحصاد بالأحداث والتحولات التاريخية العظمى أكثر أهمية من الثواني والأيام والسنوات، وعلى سبيل المثال فإن حدث حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 شكل بداية الانكماش في الإمبراطورية الإسرائيلية التي أخذت في التوسع التدريجي منذ عام 1948 عندما حصلت إسرائيل على نصيبها من قرار التقسيم وزادت عليه، وفيما تلتها من سنوات حصلت على مناطق إضافية كانت محايدة أو منزوعة السلاح، حتى كان التوسع الأعظم في حرب يونيو (حزيران) 1967 بالحصول على سيناء، وبقية فلسطين، ومرتفعات الجولان. ومنذ أكتوبر 1973 بدأت إسرائيل في التراجع بعد فصل القوات، ومن بعدها نتيجة أسلو، وأيا ما سوف تكون نتائج المفاوضات الحالية الآن إذا نجحت فسوف تكون مزيدا من الانكماش الإسرائيلي. انتهى عصر الإمبراطورية الإسرائيلية وبدأ عصر دولة أخرى إسرائيلية أو إسرائيلية - فلسطينية مشتركة حسب مسار الأحداث والتطورات. وبالمثل فقد كان عام 2013 بداية التراجع والانكماش لحركة «الإخوان»، وعلى عكس ما هو شائع فإن البداية لم تكن في مصر، وإنما كانت في ميدان «تقسيم» في إسطنبول حينما جرت مظاهرات «مدنية» تعترض على تغيير طبيعة حديقة وإحلال أثر «عثماني» محلها. ما جرى بعد ذلك محض تفاصيل لا تزال تفاعلاتها التاريخية سارية، ولكن ما جرى في مصر كان الإشهار الأكبر لانتهاء أكثر من 80 عاما من التمدد الأفقي بالانتشار بين العامة في أكثر من 80 دولة، والرأسي بشبكة تنظيمية محكمة التنظيم والتمويل والعولمة. لم تكن مصادفة بعد ذلك أنه حتى حركة النهضة التونسية الأكثر اعتدالا ظهر فشلها الكبير في إدارة البلاد، ولم تجد حكومة «الإخوان» في السودان أمامها إلا التحالف مع إثيوبيا ضد المصالح المصرية. والمعركة لا شك لا تزال دائرة بأشكال مختلفة، أكبرها وأكثرها شراسة ربما تجري في مصر، ولكن أشكالا لها كثيرة تجري في بلدان مختلفة. المهم في الموضوع أن الأسطورة وصلت إلى نهايتها. ففكرة أن «الإخوان» يملكون «الحل الإسلامي» باتت غير مسلم بها، بل هي غير مقبولة على الإطلاق، فما بات واضحا أنه لم يعد لديهم حل، اللهم إلا العنف والإرهاب. وقد حدث الانقلاب فعلا، ولكن ليس على السلطة، وإنما على الفكرة بعد أن تبين بسرعة مخيفة أنها زائفة من الأصل ولا تملك مقومات حقيقية ساعة الاختبار ساعة الإدارة أو السياسة. انتهى الوهم الذي قام على امتلاك جماعة للحقيقة، بينما هذه الحقيقة ذات طبيعية سرية تختفي - حتى وهي في السلطة - في أقبية وسراديب وهي في حالة احتضان لجماعات إرهابية. الوجه الآخر لنهاية أسطورة «الإخوان» هو بزوغ الدولة المدنية مرة أخرى بعد شحوب بدا كما لو كان سيكون أبديا، فلم يمض وقت طويل على ما عرف بثورات «الربيع» العربي حتى كان «الإخوان» يمثلون موجة المستقبل. انتشر «الإخوان» وتولوا المناصب وراحوا يوزعون البركات ذات اليمين وذات الشمال، ولم تسلم مؤسسة في البلد تولوها إلا وأرسلوا لها من سيطر عليها وأخضعها للجماعة. ولليبراليين في العالم تحدثوا كثيرا عن «النموذج» التركي، أما المحافظون فقيل لهم إن لكل بلد خصوصياته، وإنهم سوف يبدعون نموذجهم الخاص الذي ظهر أن إلهامه أتى من فكر سيد قطب. جرى الزواج مع كل الحركات الإرهابية، ونصبت أعلامها وأفراحها، فحضر قاتلو السادات احتفالات أكتوبر، وجرت الأهازيج والأفراح في استاد القاهرة لتقرير الموقف المصري من الأزمة السورية. هذه الموجة وجدت سدا منيعا، لم يكن ظهور حركة «تمرد» المصرية إلا رد الفعل المدني الذي جاء من القاهرة ممتدا نحو الشمال حتى الإسكندرية والشرق حتى مدن قناة السويس. هنا كانت الصناعة والزراعة والمجتمع المدني ورجال الأعمال والأزهر والكنيسة ومؤسسات الدولة التاريخية المدنية من قضاء وجيش ومؤسسات أمنية فخرجت تدافع عن نفسها. ولم تكن وحدها في الحقيقة، فلم يكن التيار العربي غير «المتأسلم» ساكتا، بل تحرك ليس فقط لكي يؤيد ثورة يونيو المصرية، وإنما لكي يناصرها فيما استجد من تحديات داخلية وخارجية. كان الزمن ينقلب حتى قبل أن تدق الساعة إيذانا بعام جديد! "الشرق الاوسط"