ثمة حياة أخرى، دائما، بعد الفوز بجائزة الغونكور، هذه الجائزة التي تبلغ قيمتها المالية 10 يوروات، ولكنها تضمن مبيعات بمئات الآلاف. وهذا ما أكده فرنسوا فايرغان، الفائز بهذه الجائزة سنة 2005. وهي ليست فقط مظهرا من مظاهر النبل والشرف، بل تتخطاه إلى «العيش الرغيد ما بين الفنادق والأسفار». ولعل فايرغان على حق، فنادرا ما استطاع فائز بهذه الجائزة أن يبدع رواية أفضل وأقوى من الرواية الفائزة، هذا إذا استطاع مواجهة ضغوط وإكراهات الفوز، وقرر مواصلة الكتابة. والقائمة كثيرة. وحتى فرديناند سيلين الذي أوشك على الفوز بالجائزة سنة 1932 لولا دسائس خبيثة لا أدبية حالت دون ذلك، لم يستطع، رغم حياة مديدة وصاخبة وثرية، أن يبدع نصا أفضل من رواية «سفر في آخر الليل»، التي نالت جائزة رونودو، كعزاء. وها هي سبع سنوات قد انقضت على فوز فرنسوا فايرغان بالغونكور ولم يستطع كتابة رواية جديدة بعدها، رغم إلحاح أوليفيي نورا مدير دار النشر «غراسي». وكما هو معتاد في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) من كل سنة عرفت أسماء الفائزين بأهم الجوائز الأدبية الفرنسية، لهذه السنة، وعلى رأسها الغونكور ورونودو وفيمينا والجائزة الكبرى للرواية التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية. وتعد لحظات الإعلان عن الجوائز الأدبية الفرنسية لحظة «فرنسية» بامتياز، لا يزال الفرنسيون ينتظرونها بنوع من الشغف رغم الأزمة الاقتصادية وتصاعد موجة غير مسبوقة من العنصرية والإسلاموفوبيا، ويقول الناشر أوليفيي فريبورغ عنها: «إن موسم الجوائز هو اللحظة السياسية للحياة الأدبية الفرنسية، وهو المعادل للانتخابات التشريعية بما تتطلبه من حملة انتخابية ومناورات وتصويت وفائزين وآخرين لم يحالفهم الحظ». وقد حصل كريستوف أونو - ديت - بيوت هذه السنة على جائزة الأكاديمية الفرنسية عن روايته «الغوص». والرواية تحكي قصة صحافي يحقق في وفاة زوجته في إحدى شواطئ بلد عربي، وقد رحلت ضحية بحثها عن الحرية تاركة وراءها زوجا وولدا صغيرا يهيمان بها حبا. وأما جائزة الغونكور، وهي من أهم هذه الجوائز، فإن المتتبع للرواية الفرنسية المعاصرة يكتشف، مرة أخرى، غياب أي تشويق عرفناه في سنوات ماضية، حين تكون المستويات متكافئة تقريبا، وبالتالي تجد لجنة التحكيم صعوبة في الحسم. لقد كان معظم المراقبين وكتاب الصحافة الثقافية والمكتبيون يراهنون على اسم الروائي والسينمائي بيير لوميتر، منذ البداية، وهو ما كشفت عنه مجلة «ليفر إيبدو»، حين استطلعت آراء مسؤولين ثقافيين في مجلات وجرائد ثقافية، فكشف استطلاعها عن كون أكثر من 70 في المائة منهم لا يرون فائزا منتظرا غير بيير لوميتر. عودة النفس الروائي إلى الرواية «الشعبية» الفرنسية هو الذي ميز جائزة هذه السنة، حيث إن رواية بيير لوميتر «أوروفوار لا هو» تمتد على 500 صفحة. والحقيقة أن قرار لجنة التحكيم جاء متوافقا مع القراء الذين كانوا أكثر من 90 ألف مشتر، وتذهب التوقعات إلى أن مبيعات الرواية ستتجاوز، بسهولة، رقم 400 ألف نسخة. ولأن كواليس الجائزة وصراعات دور النشر لا تخفى على أحد، فإن هذا الإنجاز هو الحادي عشر الذي تعرفه دار النشر «ألبان ميشال». وقد كانت كلمة برنار بيفو، وهو عضو في لجنة التحكيم وناقد أدبي في صحيفة «لو جورنال دي ديمانش»، مؤثرة حيث «حيى هذا المزج بين الكتابة السينمائية والرواية الشعبية، بالمعنى الجيد للكلمة». كما أن موضوع الرواية، وهو مقتبس من قصة حقيقية، كان حاسما بتركيزه على سياق ما بعد الحرب الكونية الأولى، التي تقترب مئويتها الأولى. الرواية ترسم علاقة صداقة لا تنفصم عراها تربط جنديين، أحدهما من عائلة مرموقة، في جبهة الحرب في نوفمبر 1918 أصيب أحدهما بشظايا وتشوه إلى الأبد. وامتدت الصداقة إلى باريس في ظروف ما بعد الحرب القاسية. لا يزال الرجوع إلى الماضي يخلق روايات مهمة تحظى بقراء ومشجعين. وهذا الكتاب هو أول رواية، بالمفهوم الأدبي، يكتبها بيير لوميتر ولا علاقة لها بالأدب البوليسي. وقد حظيت الرواية فور صدورها بترحيب كبير من قبل المكتبات ونالت جائزتين (جائزة الرواية الفرنسية المفضلة لدى المكتبيين وجائزة مكتبيي مدينة نانسي). وهو ما يفسر عودة الدفء إلى الرواية التاريخية، بعد مرحلة طويلة من التجريب الروائي والعبر الأجناسي. أما جائزة رونودو فكانت من نصيب يان مواكس الروائي والمخرج السينمائي والناقد في ملحق صحيفة «لوفيغارو» الأدبي، وقد ظهرت موهبته مبكرا، فنال سنة 1996 جائزة الغونكور التي تمنح لأول رواية، عن روايته «ابتهاج إلى السماء»، ومن حينها وهو يدبج الروايات والأفلام والكتب الهجائية («الجنس» و«تنظيم القاعدة» و«الصراع مع الأب» وغيرها)، مقسما الوسط النقدي بين متقبل ومنتقد، إلا أن كتابه الضخم الأخير «ولادة» (الصادر عن دار «غراسي») الذي يمتد على 1143 صفحة، وهو عبارة عن نص أوتوبيوغرافي، وكرسه لتصفية الصراع مع والده، حظي باستقبال جيد من قبل الوسط الأدبي وبتسامح كبير. وتتخلل الكتاب فقرات قاسية، لا تطاق، عن العلاقات المتوترة بين الكاتب ووالده (الأستاذ الجامعي) إلى درجة عدم اكتراث الوالد لفوز ابنه بجائزة الغونكور التي تمنح للكتاب الأول. لكأنه كان يتوجب على يان مواكس أن يقتل أباه، فرويديا، حتى ينال اعتراف الوسط الأدبي الباريسي. وقد حظيت دار النشر «غراسي» بجائزة إضافية، حيث فازت الكاتبة الكاميرونية ليونورا ميانو بجائزة فيمينا للرواية، وتتخذ من الرق موضوعا لها، فيما خطف جان - بول ورافائيل أنتهوفن جائزة فيمينا للدراسات عن «قاموس بروست العاشق». بينما فاز الروائي الأميركي الكبير ريتشارد فورد بجائزة فيمينا عن أفضل رواية أجنبية. وامتازت هذه السنة بغياب أسماء عربية أو من أصول عربية عن مراحل التنافس الأخيرة، لعلنا سنقرأ عن بعضها في الدخول الأدبي الثاني، أي في شتاء 2014.