توفي المفكر والكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي في 16 مارس 2009 . خطرني هول الموت، وأنا أزور مدينة الجديدةمسقط رأس الكاتب هذا الصيف، متوقفا في حسرة أمام ‘رواق عبد الكبير الخطيبي' بالحي البرتغالي بهذه المدينة، رواق خال إلا من العتبة التي انتصبت كشاهدة على الشرخ المقيم في الثقافة في علائقها المأزومة بالتهيكلات والتشكيلات التي تؤجل الفعل الثقافي وترمي به كما الفضلات دون أرشفة ولا ذاكرة، طبعا في غياب أو ما يشبه الأدوار الحقيقية للمثقف والمؤسسات الثقافية المعطوبة المنشغلة بالأشخاص والمآرب عوض الأسئلة المؤرقة التي لا تهدأ في الشريان العميق للمجتمع والكينونة الإنسانية . بأي شكل، إذن، يمكن إعادة مكانة هذا الرجل دون عموميات أو تشويه لمسار متعدد العطاء والاهتمام حتى لا يضيع الخيط الرابط والناظم بين تعدد الحقول ومجالات المعرفة والتي شغل الكثير من طاقاته الخلاقة ضمنها إلى آخر رمق في حياته . سؤال الإبداع والنقد يعتبر الكاتب والباحث عبد الكبيرالخطيبي من العلامات اللامعة والفارقة في المشهد الثقافي المغربي والعربي ؛ نظرا لعطاءاته المعرفية المتنوعة بين الإبداع والفلسفة والسوسيولوجيا..وهو تجاور خلاق، ينبني أساسا على عنف التأويل غير المهادن أو المرتهن لأي خلف . وضمن هذه المساحات كما يسميها نفسه، كتب الرواية بحفر ذاتي في ‘الذاكرة الموشومة: و'صيف في استكهولم'، فكانت كتاباته السردية عبارة عن مشاهد من سيرة تجربة مفتوحة ومفتونة على الحياة . وفي المقابل، كان اشتغاله النقدي غير هادىء ولا متقوقع في إطار أو خلفية محددة الملامح. أعني أشكلة الدرس النقدي، وأيضا الانساق والظواهر، بشكل مؤسس على تأزيم معرفي . وهي دعوة لتغيير النقد بمعناه المؤسساتي والمفهامي . كان عبد الكبير الخطيبي في ممارسته النقدية، يتغذى على قدر كبير من الفلسفة والعلم . الشيء الذي أثمر نصوصا فريدة، لا تتبنى قناعات إن وجدت بيتم وأحادية النظر؛ بل خلق تلك المغامرة ضمن ذاك الجدل يبن الحقول والنصوص في ذهاب وإياب محمومين بين الأمس واليوم. هاهنا، قد يصلح الأدب مدخلا كحفريات للسوسيولوجيا والفلسفة، ضمن تكسير للحدود . ولكن بكثير من سيولة النظر في الفهم الذي يخلق وجبات دسمة ومتنوعة، و على قدر كبير من وحدة الوجود. وهو الذي قال': في ميدان المعرفة لا يوجد مكانا للمعجزات، وإنما انقطاعات نقدية'. جاء هذا الرجل من زمانه، وسعى إلى الانتساب إليه حفرا، وهو يشق مسيرته بين بنيات متكلسة الرواسب وأنساق مليئة بالسلط وأوهام الما وراء. فكان يبني ضلعه المعرفي الذي يسعى إلى تنسيب القضايا، بعد تأزيمها في صمت ‘الحكماء' المؤسسين للطريق والأفق دون وثوقية أو إقرار؛ كأنه جاء كما قال ‘ليعلمنا الاختلاف الذي لا رجوع منه'. يأتي الموت كصاعقة دوما، بعد أن صدقنا الإعلام عن تعافيه الصحي . ولست أدري لماذا نحيط كل شيء بالتكتم إلى حين سقوط الضربة. وهو ما راكم ثقافة التكتم. أقول يأتي الموت ليعلمنا النسبية، وفي المقابل الإمساك بحمولة الأسماء ليس في الكتب، بل داخل الأنساق والمنظومات. الخطيبي هنا، كما يبدو لي، أسس لتثوير تفكيكي للأداة وللموضوع في غابة من الرموز والإشارات دون ادعاء أو دعوة لنصه المتعدد والمتنوع . كأنه كتاب وجود، ينبغي فتحه والتأمل فيه أو عبور طريقه المفتون بالجذور والامتدادات دون تسطير إيديولوجي أو فقهي. يعلمنا هذا الرجل والذي هو من زماننا، أشياء كثيرة وفي كل الاتجاهات منها: تشكيل تلك الشهادة على العصر، من زاوية مثقف يسعى للتقويض المعرفي بواسطة السؤال إلى حد تبدو معه أعماله كاستفهام كبير؛ يدفعنا الى عدم الارتكان لحقائق الرأي، أي الحقائق المتداولة التي نبلعها دون شك أو تفكيك. تقدم أعماله صورة عن ذاك التداخل بين حقول معرفية عدة. لكنها متكاملة ضمن شرط الوجود والحياة، وبالتالي لايمكن فهم أعماله مفصولة عن بعضها كأرخبيلات؛أو يمكن أن يكون الأمر كذلك ضمن إمبراطورية من الشك. السهر مع الأشياء التي تشد الإنسان للأرض والجذور كالوشم والأمثال والشفويات العالقة؛ والبحث ضمنها عن جماع روح وحياة أخرى لها أصولها المنسية. وبالتالي، فهذا الزخم يعطي صورة عن المثقف المتعدد الاهتمام في صمت كأنه قارة ينبغي الذهاب إليها؛ لبناء علاقات متخففة من الاقتحامات. وبالتالي، السفر ضمن نسيج يعمق السؤال ويفتحه على الواقع والحياة. أفكار ومواقف كثيرة هي أفكار ومواقف المفكر عبد الكبير الخطيبي التي تبرهن على ملامسته الخلاقة لفنون وأنواع معرفية عدة . ففي الفن المعاصر له خلاصات هامة، منها تصنيفه للحضارات إلى ثلاث : الحضارة الغربية والتي نعتها بحضارة الصورة، وإفريقيا السوداء المنفردة بالإيقاع، وصنف الأمة العربية ضمن حضارة العلامة التي تضم الصين أيضا . وهو هنا في حضارة العلامة يتمركز في إشكالية المعنى الذي يأتي في آخر سلسلة الانتقالات من الخطية إلى العلامة إلى الصورة إلى المعنى. وهو هنا ينتصر للفن المشفوع بالخلفية والرؤيا . يقول في حواره الأخير الذي نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية مؤخرا ‘هناك الفن العالم، والفن الساذج . شخصيا أعتبر السذاجة في الفن لا ينبغي أن تدوم'. وفي التراث، يعتبر أن الماضي إنتاج؛ وينبغي أن يدخل في إطار إعادة الإنتاج. وهو يقر هنا أن التراث عدة أشكال، منها الثابت المتمحور حول ذاته، والآخر منها مواكب للعصر، من خلال دينامكيته وحركيته الداخلية الذاهبة نحو الخارج . بهذا المعنى، يكون التراث مدخلا أساسيا، لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. وفي الثقافة الشعبية، يعتبر تعدد الأصوات والتعبيرات معبرة عن الغنى الشفوي، وليست فولكلورا فقط ؛هنا إشارة إلى التضخيم وتسطيح هذا النوع الثقافي . مؤكدا في المقابل على ديمومة هذه الثقافة، لكونها تعبر عن العلامة بالعالم. إنها ذات معنى وجود وتخلق لصيق بتصورات الإنسان للحياة والعالم. وبالتالي، فهذه الثقافة ليست ديكورا جامدا، بل عطاء متخلقا وخلاقا ضمن الهوية غير المتصلبة أو المنكمشة؛ باعتبار هذه الثقافة تجنح نحول الداخل والخارج. المشترك بين الحقول صاحب ‘الاسم العربي الجريح' يستند في قراءاته للفكر العربي والمغربي على ثنائيات لها امتدادها المرجعي، من قبيل : المرئي واللامرئي، الظاهر والباطن، العلامة والخطاب ... وهو بذلك يسند مرجعيات، ويمارس أسئلته وفق منحى تفكيكي يبرز القطائع ؛ بل يساهم في خلقها، من خلال تأزيمه المعرفي للمفاهيم والإشكاليات المطروحة . يقوم بكل ذلك، دون تقديس للحداثي الآتي من الخارج ؛ ولا التمركز في الماضي المكتفي بذاته... وعن تعدد اهتمامه بين الكتابة الروائية والنقدية والسوسيولوجية، يقول في تبريره لهذا التعدد ضمن حواره الأخير الذي يعتبر كشهادة حية يمكن أن تنصفه بعد مماته من اللغط والعموميات يقول ‘المشترك هو أنا كإنسان أحب الحياة وكباحث ألاحظ وأستكشف وأبحث، أطرح الأسئلة وأختار موضوع أعمالي بوعي . وأنا أتطور مع تطور أعمالي' . ظل بالفعل هذا المفكر كذلك، في اشتغال دؤوب يثير الأسئلة الحارقة في تلك الهوية المتعدد والطرية، أعني هوية الكتابة .