هل أصبحت ليبيا والفوضى القاتلة شيئا واحدا؟ هذا السؤال يكاد يجمع عليه جميع المراقبين مع خلاف أن الأغلبية تركز على وصف الفوضى من دون تورط في تحديد نوع هذه الفوضى باعتبار أن مزيد الدقة في الوصف، يمكن أن يتقاطع مع المواقف القليلة التي كانت رافضة لتدخل الناتو في ليبيا أيام الثورة وكذلك تأطير الثوار وإسقاط نظام القذافي. والمشكلة أنه بقدر ما حظي الشأنان المصري والتونسي بالاهتمام الإعلامي والدولي، فإن ثورة ليبيا ما إن جرت الإطاحة بالقذافي حتى أصيب الإعلام العربي والأطراف الدولية بنوع من البرود وكأن كل شيء انتهى، والحال أن كل شيء قد بدأ في ليبيا من جديد ومن الصفر، بل ليست مبالغة إذا قلنا ما دون الصفر. وفي خضم هذا الفتور العالمي في متابعة تفاصيل الوضع الليبي والانتباه إلى خطورته المتراكمة والمتزايدة، تمكن الإرهاب من التغلغل في جغرافية ليبيا الشاسعة حتى أصبحت ليبيا اليوم، كما يتردد في الدوائر الدولية، من أكبر قواعد الإرهاب. ولعل حادثة اختطاف رئيس الحكومة الليبية المؤقتة علي زيدان ثم إرجاعه، وهي الحادثة التي أعادت الشأن الليبي إلى الصدارة، تعد مؤشرا واضحا يعكس مدى تأزم الأوضاع وإلى أي حد محكومة ليبيا اليوم بالميليشيات المسلحة. لقد ذهب في ظن حلف الناتو أن المهمة انتهت بمجرد مقتل القذافي ولم تهتم بالألغام التي زرعها القذافي، سواء في أيامه الأخيرة أو على امتداد حكمه. ومثل هذا الضعف في تقدير المواقف وإدراك خصوصية الشأن الليبي يقوداننا إلى الاعتراف بأن التدخل في الثورة الليبية لم يكن محسوبا بدقة، وأنه كان تدخلا يفتقر إلى الدراسة والإحاطة المتعددة الأبعاد، حيث إن المجتمع الدولي لم يتحمل مسؤوليته في ليبيا ولم يطرح السؤال الأهم: ليبيا ما بعد القذافي؟ إن ليبيا اليوم تعيش وسط ألغام زرعها القذافي. وإذا كان اللغم الأخير يتمثل في نشر السلاح وجعله على قارعة الشوارع وبيد الصغير والكبير، وهو ما نتج عنه ظهور ميليشيات مسلحة تلوي ذراع الحكومة والمجلس الوطني العام، فإن هناك ألغاما أخرى جعلت من الأزمة الليبية مختلفة عن أزمتي مصر أو تونس. فأزمة ليبيا تكمن أولا في أنها متأخرة في أقل الحالات نصف قرن عن جيرانها تونس والجزائر والمغرب، ولم تنجز طيلة استقلالها مؤسسات دولة وجيش ومجتمع مدني وأحزاب. لذلك فهي - أي ليبيا - على المستوى السياسي هي بالفعل صحراء قاحلة. وليس من السهل ولا من السريع أن تقوم النخبة السياسية الحاكمة مؤقتا في ليبيا ببعث دولة بمؤسساتها المتعارف عليها دوليا، ناهيك بأن المطلوب من هذه الحكومة هو حاليا أكثر من طاقتها وخبرتها، ولن يكون ممكنا الانطلاق ببناء دولة ليبيا الحديثة إلا بطي ملف الميليشيات المسلحة والإرهابيين المنتمين إلى تنظيم القاعدة وغيره، والتحكم أيضا في ملف «إخوان ليبيا». وهنا نصل إلى مربط الفرس: لن تستطيع أي حكومة ليبية حاليا معالجة ملف الإرهاب وسيطرة ميليشيات مسلحة على الدولة ومؤسساتها ورجالاتها بالاختطاف ومحاصرة الوزارات ومقر البرلمان... فهذه المهمة هي مهمة المجتمع الدولي وليست مهمة حكومة طرية العظم وفي بلد ممتد وشاسع مثل ليبيا. فالمطلوب من المجتمع الدولي تحمل مسؤوليته إزاء ليبيا في الحملة على الإرهاب. ولا نعتقد أن تخصيص الولاياتالمتحدة قوة تدخل سريع في شمال أفريقيا للانتقام من الهجوم الذي تعرضت إليه قنصليتها في بنغازي في سبتمبر (أيلول) 2012 هو المقصود بتحمل المجتمع الدولي لمسؤوليته؛ ذلك أن مثل هذه التدخلات الانتقامية تؤجج الوضع وتزيده إرهابا مثلما حصل بعد اختطاف أبو أنس الليبي. إن أزمة ليبيا ليست أزمة داخلية وتداعياتها وخيمة على جيرانها التي ارتبط أمنها بأمن ليبيا، وهو ما يتطلب توحيد المواقف في المغرب العربي وفي المجتمع الدولي، وتجاوز حالة السلبية والفرجة. فلا أمن في المغرب العربي إلا بأمن ليبيا، وهو ارتباط تاريخي وحقيقة بديهية في المنطقة، وستكون كل المنطقة تدريجيا مقبلة على حمام دم إذا لم يضع المجتمع الدولي خطة محكمة لمساعدة ليبيا. ومن دون هذه المساعدة، فإن النفط محور اهتمام وأطماع دول حلف الناتو وغيرها لن يكون تحت السيطرة ولا مضمونا بأي شكل من الأشكال، ومن ثم فالمسألة ليست فقط دعوة إلى تحمل المسؤولية، بل وأيضا إلى ربطها بالمصلحة أيضا. فلا بد من إيقاف الميليشيات المسلحة التي عرفت كيف تزرع الخوف في صفوف الحكومة وكيف تجبر البرلمان على تبني خياراتها مثل قانون العزل السياسي. ليبيا اليوم مفتوحة على كل السيناريوهات السلبية؛ التقسيم والحرب الأهلية والسيطرة الكاملة للإرهابيين، وهي كلها سيناريوهات تنتعش من الواقع السوسيولوجي القبلي العشائري، ومن سلطة البنية التقليدية المحافظة؛ لذلك فإن أول خطوة قبل التفرغ لعملية البناء السياسية والاجتماعية والتنموية، هي خطوة القضاء على الميليشيات المسلحة والإرهابيين أولا وثانيا، ولكن بمساعدة أساسية من المجتمع الدولي. "الشرق الأوسط"