كيف يمكن أن نوصف المشهد الصراعي العنيف في مصر اليوم بين جماهير30 يونيو التي خرجت استجابة لحملة تمرد لإسقاط الحكم الاستبدادي لجماعة الإخوان المسلمين، والقيادة الوطنية المتألقة للقوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وجماعة الإخوان المسلمين قيادة وأتباعا؟ هل يمكن كما هو سائد في لغة الخطاب اليوم تحقيق مصالحة سياسية تقوم أساسا علي أن يتنازل كل طرف عن جزء من مشروعه للتغيير السياسي؟ أم أن التوصيف الدقيق لهذا الصراع التاريخي أنه في الواقع لو شئنا الدقة العلمية لقلنا إنه صراع ثقافي في المقام الأول؟ هذا الصراع في الواقع يقوم أساسا بين نموذجين معرفيين ينطلق كل واحد منهما من رؤية للحياةVisiondumonde مناقضة للأخري، ولا يمكن لهما أن يتلاقيا تحت أي ظرف. النموذج المعرفي الأول هو الحداثةmodernity، والنموذج المعرفي الثاني مناقض للحداثة، ويقوم علي أساس محاولة استعادة نموذج تقليدي إسلامي هو الخلافة الإسلامية وفق مشروع إخواني محدد الملامح والسمات. ولو شئنا أن نبحث المعضلة الديمقراطية العربية التي يكشف عنها الصراع العنيف بين أحزاب سياسية وتيارات فكرية متعارضة، فإنه لا يمكن ردها إلي محض أسباب سياسية بل إن التحليل الثقافي يمكن أن يساعدنا علي فهم أعمق لها. ولو طبقنا منهجية التحليل الثقافي لوصلنا إلي نتيجة رئيسية مؤداها أن المجتمع التقليدي العربي لم يستطع اجتياز اختبار الحداثة الغربية، والتي كانت أساسا للتقدم الغربي كله في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. والحداثة السياسية الغربية تعني الديمقراطية في المقام الأول، بمفراداتها المعروفة، وهي حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم والانتخابات الدورية، النزيهة سواء، كانت برلمانية أو رئاسية لو كان النظام السياسي جمهوريا، وقبل ذلك كله تداول السلطة. أما الحداثة الفكرية فتقوم علي مبدأ أن العقل هو محك الحكم علي الأشياء وليس النص الديني. ولو طبقنا معيار الحداثة الغربية بكل أبعادها لاكتشفنا أننا في العالم العربي أخفقنا لأسباب متعددة في تحقيق الديمقراطية، ولم نستطع أن نحقق الحداثة الفكرية، ومعني ذلك كله أن المعضلة الديمقراطية العربية لن تحل إلا إذا استطعنا أن نجابه المشكلات التي تعوق تطبيق معايير الحداثة مرة واحدة. ويمكن القول بيقين إن التطرف الإيديولوجي الذي تمارسه الجماعات الدينية مثل جماعة الإخوان المسلمين أو الأحزاب السياسية الدينية الأخري هو أحد المعوقات الرئيسية للنمو الديمقراطي في العالم العربي. وبعض هذه الحركات التي تمثل التطرف الإيديولوجي قد تندفع إلي ممارسة العنف ضد الدول القائمة، والذي يصل إلي حد ممارسة الإرهاب المنظم، سعيا إلي قلب الأنظمة السياسية القائمة، بدعوي أنها لا تطبق شرع الله، وبعضها الآخر لا يمارس الإرهاب الصريح مثل جماعة الإخوان المسلمين ولكنها ترفع نفس شعارات الحركات المتطرفة، وخصوصا فيما يتعلق بعدم شرعية الأنظمة السياسية لأنها تطبق التشريعات الوضعية، أو لأن المجتمعات نفسها كافرة وجاهلية، كما كان يقول سيد قطب منظر التطرف في العالم الإسلامي، والذي خرجت من معطفه جميع التنظيمات المتطرفة الإسلامية. ويمكن القول إن هذه الحركات السياسية الإسلامية المتطرفة حاولت من قبل عن طريق الإرهاب الصريح تحقيق هذا الانقلاب السياسي، إلا أنها فشلت فشلا ذريعا لأن الحكومات العربية نجحت في القضاء علي منابع الإرهاب وتصفية الجماعات الإرهابية. وقد نجحت هذه الجماعات الإسلامية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر علي وجه الخصوص إلي أن تصل عبر انتخابات عامة إلي الحكم، مما أوجد صراعا حادا بينها وبين الجماعات والتيارات الليبرالية. ونعود لمناقشة المشكلة التي طرحناها في بداية المقال وهي أن المشكلة لا تتمثل في إمكانية المصالحة السياسية بين ثورة30 يونيو وجماعة الإخوان المسلمين بعد عزل رئيس الجمهورية السابق والقبض علي العشرات من قياداتها بتهمة التحريض علي العنف، ولكن في أن التوصل إلي توافق ثقافي تكاد تكون مستحيلة. ولكي ندلل علي صدق هذه المقولة علينا أن نحلل عناصر مشروع جماعة الإخوان المسلمين لكي نتعرف علي الملامح الأساسية لرؤيتها للعالم. التوجه الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين، هو السعي إلي استعادة الخلافة الإسلامية التي سقطت عام1928 مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وكأنها بالرغم من كل مثالبها وسلبياتها هي الفردوس المفقود الذي تحلم الجماعات الإسلامية باستعادته! كيف؟ بالانقلاب علي الدولة المدنية، وتأسيس الدولة الدينية علي هدي تأويل خاص للشريعة الإسلامية، ومفهوم بدائي للإسلام يقوم علي عدم الاعتراف بالآخر غير المسلم، بل وضرورة الجهاد ضده لإخضاعه تحقيقا لمبدأ عالمية الإسلام! إلي أي درجة يصدق هذا التحليل؟ من واقع الدراسات التي قمت بها في هذا الصدد خلصت إلي أن كل الجماعات الإسلامية تقوم ممارساتها علي ثلاثية أساسية مفرداتها هي رفض المجتمع القائم واتهامه بعدم التطابق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وضرورة الانقلاب علي الأنظمة السياسية العلمانية والديمقراطية، وتأسيس الدولة الدينية. وقلت هذا فرض نقدمه ونحتاج لإثباته أو نفيه إلي إجراء دراسات حالة لجماعات إسلامية في المشرق والمغرب والخليج، لكي نتأكد من صحة هذا الفرض. ولذلك لكي نتحقق من صحة الفرض قررنا أن نعتمد علي مجموعة بحوث متميزة ضمنها كتاب بالغ الأهمية عنوانه مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين حرره الدكتور معتز الخطيب، وشارك فيه مجموعة من أبرز الباحثين والمفكرين العرب. في هذا الكتاب دراسات حالة متعمقة لعدد من الموضوعات المهمة، ولكننا نكتفي بالتركيز علي دراسة الدكتور أنور أبو طه عن الإخوان المسلمون والدولة. بناء علي تحليلنا للأفكار الرئيسية لهذه الدراسة التي تتميز بالاعتماد علي النصوص التي كتبها الشيخ حسن البنا، نستطيع أن نقول بيقين أن الفرض الذي صغناه بصدد التوجهات الأساسية للحركات الإسلامية علي اختلافها وتنوعها هي واحدة وبغض النظر عن تنوع الوسائل، وهي رفض المجتمع القائم، والعمل علي الانقلاب علي النظم السياسية القائمة ولو باستخدام العنف، وتأسيس الدولة الدينية التي تطبق الشريعة الإسلامية. وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين وصلت إلي حكم ليس بانقلاب ولكن عن طريق انتخابات ديمقراطية، إلا أنها سعت لتنفيذ مشروعها الأساسي والدليل علي ذلك أن الحكم الإخواني الذي لم يستمر إلا عاما شرع في أخونة الدولة وأسلمة المجتمع، وفقا للمبادئ التي قام عليها المشروع المبدئي لجماعة الإخوان المسلمين. وخلاصة تحليلنا للمشكلة أن المصالحة السياسية مستحيلة، لأن جماعة الإخوان المسلمين- فيما يبدو ليست مستعدة للتنازل عن جميع مفردات مشروعها السياسي الأساسي والذي يتمثل في إقامة دولة دينية، والسعي لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وعدم الاعتداد بمقتضيات الوطنية المصرية ولا بقداسة حدود الدولة، والاستئثار المطلق بالحكم، والرفض القاطع لمبدأ تداول السلطة، مع أنه ذروة القيم الأساسية للديمقراطية. "الأهرام"