يبدو أن التونسيين، كالمصريين من قبلهم، تملّكهم السأم من حزب «الإخوان المسلمين»، ويريدون الآن تغيير الوجهة السياسية لبلادهم. ومثلما كان عليه الحال في مصر تماماً، فإن حزب «الإخوان» التونسي (النهضة) الذي فاز في أول انتخابات بعد الثورة، عمد عقب فوزه إلى تشكيل ائتلاف حكومي مع أحزاب مدنية، زاعماً أنه لن يسعى إلى فرض أيديولوجيته على المجتمع التونسي الذي تعوّد خلال عقود عديدة ماضية على ثقافة الانفتاح. وفضلاً عن الازدهار الاقتصادي الذي لم يتحقق، توقع التونسيون أن العملية السياسية التي ستعقب الثورة، ستنطلق من داخل المجلس التأسيسي الوطني المنتخب، الذي سيتكفل بصياغة دستور جديد، تحضيراً لانتخابات تضمن إرساء أسس وقواعد الديموقراطية. ووفقاً لكل الاعتبارات، أثبتت الحكومة الموقتة فشلها في تحقيق هذه الوعود والطموحات. وحتى الآن، وبعد مضي عامين ونصف العام على انتصار الثورة، لم تكتمل صياغة الدستور الموقت. وبرغم كل ذلك، واصل المجلس التأسيسي توسيع صلاحياته حتى شعر معظم التونسيين بأن حزب «النهضة» يبدو وكأنه يسعى للانفراد بالسلطة. وفي الوقت ذاته، أصبحت التيارات المتطرفة محط اهتمام وقلق، خاصة بعد اغتيال اثنين من قادة أحزاب اليسار. وخلال هذه الفترة العصيبة، ظل أداء الاقتصاد ضعيفاً مع غياب فرص التشغيل، بخلاف ما كان يتوقعه معظم التونسيين. وأخيرا... أثمر الضغط المتزايد للشارع التونسي المنظم عن انتزاع وعد من حزب «النهضة» باستقالة حكومته لفتح الطريق أمام تشكيل حكومة موقتة تشرف على إجراء الانتخابات. وفي الفترة التي سبقت هذا التطور الجديد مباشرة وتمتد بين 4 و31 آب الماضي، عمدت مؤسسة «خدمات زغبي للبحوث» ZRS إلى استطلاع آراء 3031 تونسياً من البالغين، لتحديد مواقفهم من الأحداث المتفاقمة في بلدهم منذ اندلاع الثورة. والشيء الذي استنتجناه هو عدم رضا الناخبين عن الأداء الحكومي، والشكوى من ظاهرة الاستقطاب الاجتماعي العميق. وفي بعض الأحوال، تكون الانقسامات في تونس شبيهة بتلك التي وجدناها في مصر، وذلك من خلال استطلاع أجريناه في شهر أيار الماضي، أي بشهر قبل المظاهرات التي قادتها حركة «تمرّد» وأدت إلى سقوط نظام مرسي في الثالث من شهر تموز. وكما كانت عليه الحال في مصر، فإن الغالبية العظمى من التونسيين يقولون إنهم فقدوا الأمل الذي كانوا يحلمون به قبل عامين ونصف العام. ومثلما حدث لحكومة «الإخوان» في مصر، أدت ممارسات الحكومة التونسية بقيادة حزب «النهضة» إلى تراجع الدعم الشعبي له، حتى أصبح ثلاثة أرباع الناخبين التونسيين لا يثقون في هذا الحزب. ومثلما أحس المصريون بالقلق والانقباض عندما اكتشفوا أن «حزب الحرية والعدالة» الإخواني سعى إلى الانفراد بالسلطة، عبّر التونسيون أيضاً عن قلقهم من سعي «النهضة» للسيطرة على الحكومة. ومثلما حدث في مصر أيضاً، تراجع التأييد الذي يحظى به حزب «النهضة» الحاكم إلى 28 في المئة فقط بين التونسيين. وفيما أظهر 90 في المئة من مؤيدي «النهضة» درجات متفاوتة من دعمهم للحكومة التي تمثلهم، فإن 95 في المئة من بقية التونسيين (الذين يمثلون 72 في المئة من مجمل عدد السكان) لا يؤيدون حكومة «النهضة» أصلاً. والتشابه الآخر بين ما يحدث في مصر وتونس يكمن في أن 72 في المئة من بقية الناخبين التونسيين الذين لا يؤيدون «النهضة» توزعت انتماءاتهم على عدد من الأحزاب الضعيفة نسبياً، في غياب حزب منفرد يمكنه أن يستحوذ على ثقة أكثر من ربع عدد السكان البالغين. وهناك أيضاً بعض الفروق الأخرى بين الوضع في مصر وتونس. فقد عبر 53 في المئة من التونسيين عن اعتقادهم بأن تدخل الجيش في العملية السياسية «خطأ». وما زالت المعارضة التونسية ذات التنظيم الجيد، تأمل حتى الآن في تشكيل ائتلاف من الأحزاب المدنية بالإضافة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. وفيما عبر التونسيون عن قلقهم الشديد من تسامح حزب «النهضة» منذ مدة طويلة مع ممارسات المجموعات السلفية المتهمة باغتيال اثنين من الزعماء اليساريين من ذوي الشعبية العريضة، فقد أظهر الاستطلاع أن الخوف من «أسلمة» البلد، ربما لا يمثل السبب الأساسي للاستياء من أداء الحكومة. وأوضح الاستطلاع أن غالبية التونسيين منزعجون بسبب عدم فعالية الحكومة وفشلها في تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية التي أطلقوا من أجلها ثورتهم. وأظهر استطلاع «خدمات زغبي للبحوث» أيضاً النتائج التالية: ÷ يشعر ثلثا التونسيين بأن بلدهم يتحرك في الاتجاه الخاطئ. ÷ قال أقل من ثلث التونسيين إن الحكومة تعاطت بفعالية مع القضايا التي تحتل الأولوية مثل زيادة فرص التشغيل والاهتمام بحل مشكلة غلاء المعيشة وحماية الحقوق الفردية والمدنية. ÷ لم توافق غالبية التونسيين على أن أداء الحكومة كان فعالاً ومقبولاً في ما يتعلق بالقضايا السياسية الأحد عشرة التي سئلوا عنها خلال الاستطلاع. ÷ قال نحو ثلاثة أرباع التونسيين إن الحكومة الحالية «مُجتاحة من طرف حزب النهضة» ولا تضم «ائتلافاً متوازناً يمكنه أن يضمن الوسطية». وعبر عدد مماثل من التونسيين عن اعتقادهم بأن «حزب النهضة لا يلتزم بالأهداف التي اندلعت من أجلها الثورة». ÷ ويرى ثلثا التونسيين أن الحكومة فشلت في صياغة الدستور وفق جدول زمني محدد. واعتبر ثلاثة أرباع أفراد العينة أن المجلس التأسيسي الذي انتخب أصلاً من أجل إعداد وإقرار الدستور الموقت والتحضير لانتخابات مقبلة، عليه ألا يزيد من فترة بقائه وأنه أصبح غير شرعي. ومن المهم الإشارة أيضاً إلى ندرة القيادات التي تحظى بالثقة في تونس. ولعل القيادي الذي يتمتع بتأييد 50 في المئة من أصوات الناخبين هو حمادي الجبالي الذي سبق له أن شغل منصب رئيس الوزراء، إلا أنه استقال في شهر شباط الماضي احتجاجاً على اغتيال شكري بلعيد القائد اليساري ذي الشعبية الواسعة. ولا شك أن هذا الموقف قد يفيده من ناحية الشعبية. والسياسي التونسي الثاني الذي اقتربت نسبة مؤيديه من 50 في المئة هو قائد الجيش المتقاعد رشيد عمّار الذي ارتفعت شعبيته عندما رفض استخدام القوة العسكرية ضد المتظاهرين إبان الثورة التي أطاحت نظام بن علي. وليس من المعروف بدقة الآن، الوجهة التي ستتجه إليها تونس. ولكن الشيء الواضح هو أن حزب «النهضة» وعلى رغم أنه ما زال في السلطة، إلا أن «الإخوان المسلمين» بشكل عام، استهلكوا أنفسهم، ولم يعد في وسعهم تمرير دعايتهم العقيمة أو الانفراد بالحكم. والشيء الآخر الواضح هو أن الرغبة في التغيير ما زالت حيّة ومتوقدة في قرارة أنفس التونسيين. "السفير" اللبنانية