في هذا العام نحتفل بالذكري الأربعين لانتصارنا علي الإسرائيليين في حرب أكتوبر، ونحن لا نزال نحتفل بانتصارنا علي دكتاتورية الإخوان المسلمين وحلفائهم في ثورة يونيو.. هل هي محض مصادفة أن يتواصل العيدان، وتأتي ذكري الانتصار الأول عقب الانتصار الآخر؟ أم أنها ليست مصادفة، أن يتصل يونيو بأكتوبر رغم الأعوام الأربعين الفاصلة، لإنهما تجليان لروح واحدة، وحلقتان متصلتان في مسلسل واحد يجب أن نتأمله ونعرفه لنعرف أنفسنا، وندرك أن الحاضر لا يمكن إلا أن يكون امتدادا للماضي، وأن الحرية لا تتجزأ، إذا فرطنا في حقوقنا السياسية، وخضعنا في الداخل لحكم الطغاة، فسوف نجد أنفسنا عاجزين عن حماية استقلالنا والدفاع عن أرضنا، والهزيمة التي حاقت بنا في صراعنا مع الطغاة لابد أن تحيق بنا مع الغزاة، والعكس صحيح. الانتصار الذي نحققه في حربنا مع الغزاة يساعدنا ويؤدي بنا لامحالة للانتصار علي الطغاة، والحق يذكرنا بالحق، فإن نسيناه هنا نسيناه هناك، وما علينا إلا أن ننظر في تاريخنا الحديث والقديم، لنجد أن الصلة بين الاستقلال والديمقراطية، أو بين حرية الوطن وحرية المواطن حقيقة مؤكدة. حين سقطت الدولة المصرية القديمة تحت ضربات الغزاة الفرس، انفتح تاريخنا علي موجات متصلة من حكم الغزاة الذين كانوا غزاة وطغاة في وقت واحد. من القرن السادس قبل الميلاد، إلي أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، كانت مصر ولاية تابعة للإمبراطوريات التي توالت علي غزوها، وكان المصريون طوال هذا التاريخ رقيق أرض محرومين من ممارسة أي سلطة، فليس لهم حق في أن يحكموا أنفسهم، كما كانوا محرومين من حمل السلام، ولأننا وقعنا تحت هذا الطغيان المزدوج، فقدنا شعورنا بالحاجة إلي الحرية، وتعودنا علي العبودية، واستمرأناها إلي الحد الذي أصبحنا فيه نستورد الحكام ونشتريهم من الأسواق ليصبحوا سادة لنا، وتلك هي حالنا مع المماليك، صحيح أن هذا التاريخ لم يكن استسلاما كاملا، وأننا ثرنا علي حكم الأجانب عدة مرات أثبتنا فيها أن الحرية حق طبيعي لا يضيع. فالإنسان بحكم طبيعته كائن حر، لكن الحرية ليست نزعة فردية، ولا يمكن أن تتحقق لكل إنسان علي حدة، وإنما الحرية حق طبيعي لا نستطيع أن نمارسه إلا ضمن الجماعة التي ننتمي لها، أي في إطار النظام السياسي الذي نبنيه ونضمن به أن نكون أحرارا، فإذا انهار هذا النظام وانهارت مؤسساته، فقدنا حريتنا وتعودنا فقدانها، ونسينا تقاليدها، واستبدلنا بها العبودية وتقاليدها، وأصبحنا لا نستطيع أن نعيش إلا محكومين بغيرنا خاضعين له، حتي يحدث حادث، أو نواجه بما يخالف عاداتنا، ويتحدي طاقاتنا، ويذكرنا بحقنا الطبيعي الذي فقدناه ونسيناه فنسعي في طلبه، ونناضل في سبيله، وننخرط في هذا النضال حتي نستعيد حريتنا كلا لا يتجزأ، حرية الوطن والمواطن. في القرن التاسع عشر دخل الفرنسيون مصر بعد معركة مع المماليك الذين فروا أمامهم فلم يثبت لهم إلا المصريون الذين استيقظت فيهم حريتهم المنسية، فثاروا علي الفرنسيين، وقاوموهم حتي أجلوهم عن مصر، ثم خرجوا من مقاومتهم الفرنسيين ليقاوموا الأتراك العثمانيين، ويستعيدوا تحت قيادة محمد علي استقلالهم الذاتي، ويستعيدوا مع الاستقلال حقهم في حمل السلاح، ثم لم يمض بعد ذلك نصف قرن حتي هبوا مع أحمد عرابي ورفاقه يطالبون بالحكم النيابي والدستور، ويرفعون شعارهم الذي اجتمعت فيه مطالبهم كلها، وهو مصر للمصريين. فإذا نظرنا في تاريخنا الأقرب وجدنا هذا الارتباط في غاية الوضوح، حين فرطنا خلال الخمسينيات والستينيات في الديمقراطية منينا بهزيمة يونيو1967، وحين غسلنا عارها في أكتوبر1973 بدأنا طريقنا لاستعادة الديمقراطية في ثورة يناير التي اكتملت بثورة يونيو، وإذا كان الارتباط بين الاستقلال والديمقراطية علي ما رأينا، فمن الطبيعي أن يكون الجيش حاضرا هنا وهناك. الجيش يحمي الاستقلال، وإذن فهو يحمي الدولة، وإذن فهو يحمي الديمقراطية، لأن الديمقراطية نظام لا يتحقق إلا في الدولة، والدولة كيان لا يتحقق إلا في الاستقلال، ووجود الدولة المستقلة شرط بدهي لوجود الجيش، فالجيش يحمي نفسه إذن حين يحمي الاستقلال الذي يصدح مهددا حين تكون الديمقراطية مهددة، والجيش الذي عبر الهزيمة وانتزع النصر في أكتوبر1973، هو الجيش الذي استجاب للشعب ووقف إلي جانبه، وأسقط معه دكتاتورية الجماعات الدينية في الثلاثين من يونيو هذا العام. وفي اعتقادي أن المؤسسة العسكرية المصرية تعلمت الكثير من هذه التجارب، واستوعبت دروسها وطبقتها في ثورة يناير حين تخلت عن مبارك، وفي ثورة يونيو حين عزلت محمد مرسي الذي يقدم لنا هو وجماعته الوجه السلبي للارتباط بين الديمقراطية والاستقلال. نحن نعرف أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة فاشية تناهض الديمقراطية، وتحاربها بمختلف الطرق والأساليب، لأن الديمقراطية هي حكم الشعب، والإخوان يرون أنهم وحدهم المؤهلون لتولي السلطة، لأنهم المؤهلون لتطبيق الشريعة التي يعتقدون أن الإسلام يفرض عليهم أن يطبقوها، وبهذا يكون تولي السلطة أداء لفرض ديني وليس واجبا وطنيا، وبما أن الفرض الديني واجب الأداء دائما، فالسلطة الدينية باقية إلي الأبد لا تقبل التنازل أو التداول، وهذه هي الدكتاتورية بعينها كما عرفناها في الماضي، وكما عرفناها في العامين الأخيرين علي يد الدكتاتور المعزول. ولأن الإخوان أعداء للديمقراطية، فهم أعداء للوطنية يحاربونها، ويهدمون دولتها، ويسعون لإحياء الخلافة التي لا يكون فيها الوطن إلا ولاية تابعة، ولا يكون فيها الشعب إلا رعية تسمع للحاكم، وتطيع فلا تسأله ولا تحاسبه، لأنه يحكم بأمر الله لا بأمرها، فمن حقه في هذه الحالة أن يتنازل عن سيناء لحماس، وعن قناة السويس لقطر، وعن حلايب وشلاتين لإخوانه السودانيين! والخطأ القاتل الذي وقع فيه الإخوان، هو ظنهم أن المصريين الذين أنهكتهم العبودية في الماضي، والدكتاتورية في الحاضر، لم يعودوا قادرين علي أداء واجبهم نحو الوطن، ونحو الحرية، لكنهم كانوا واهمين، لأن التاريخ لا يموت، ولأن الطغيان الإخواني استفز في المصريين طاقاتهم الكامنة، فثاروا كما لم يثوروا من قبل، ووقف الجيش إلي جانبهم لينقذوا الوطن، وينقذوا الديمقراطية. لا ديمقراطية خارج الوطن.. ولا وطن بلا ديمقراطية. "الأهرام"