كنت أعد نفسي لزيارة تركيا ولكنني بعد ما رأيت الموقف الغريب لرئيس الوزراء التركي من ثورة الشعب المصري غيرت رأيي، ولن أذهب إلي تركيا، بل أفكر أنا وأسرتي في الامتناع عن شراء أية سلع تركية.. هكذا قالت لي استاذة جامعية كانت معجبة بقيادة أردوغان في السابق, أما الآن فقد تحول الاعجاب إلي غضب واستياء بسبب الموقف التركي من ثورة الشعب المصري واستعادته حريته ومدنيته. واتصور أن كثيرا من المصريين يشعرون بالغضب نفسه, ويرون أن ما يفعله ويقوله رئيس الوزراء أردوغان هو تدخل فج وغير مقبول وواجب الرد عليه شعبيا ورسميا. ما يزيد الأمور غضبا واستياء هو أن بعض الأسلحة التي تم كشفها في ميناء شرق بورسعيد خاصة الطبنجات التي تكفي لتسليح20 ألف فرد, جاءت من تركيا الي الداخل المصري. بالقطع لا تأتي الأسلحة المهربة والمخفية من أجل التسلية أو لتوزيعها علي الفقراء والمساكين من الاخوان والمتأسلمين, ولكن لأغراض دنيئة وحقيرة, أو بعبارة أخري لغرض إشعال مواجهات أهلية تنتهي بحرب وخراب لمصر وشعبها. ومن يفعل ذلك لا يستحق منا إلا كل ازدراء وكل احتقار. بالتأكيد ما جري في مصر أصاب أوهام القيادة التركية الحالية في مقتل, لقد اختفي الحليف الذي كان يسهل التغلغل التركي في المجتمع المصري, واختفي الرجال الذين حصلوا علي الكثير من الأموال والمنافع لكي يفتحوا الأبواب المصرية علي مصاريعها أمام النفوذ التركي اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. ولما كانت الاستثمارات التركية والطموحات التركية كبيرة للغاية, فمن الطبيعي أن يكون هناك غضب وقلق, أما ما هو غير طبيعي أن يتحول هذا الغضب إلي مسعي جاد لدفع مصر نحو اقتتال أهلي, وشحذ وتعبئة الدول الاوروبية والولايات المتحدة لكي تعاقب مصر وشعبها بحجة أن ما جري هو انقلاب عسكري مرفوض وأن لا سبيل إلا عودة الرئيس المعزول. والمثير والمرفوض أيضا هو ذلك الاحتضان السافر لاجتماعات قيادة التنظيم الدولي للاخوان في اسطنبول لوضع خطة من أجل تحويل مصر إلي نموذج آخر مما يجري في سوريا حيث التدمير والخراب بلا حدود, وحيث التدخل التركي العبثي بلا قيم ولا مبادئ. بعض كتابنا الافاضل ذوي العلاقات الحميمة مع تركيا يرون أن ما يفعله رئيس الوزراء التركي أردوغان له مبرراته الداخلية وليس موجها لمصر تحديدا, حيث الخوف الشديد في انقرة من أن يعود الجيش التركي ثانية إلي التدخل في الشأن السياسي واستنساخ التجربة المصرية حسب زعمهم, لاسيما أن تركيا شهدت مؤخرا مظاهرات حاشدة غير مسبوقة ناهضت سياسات أردوغان الاستعلائية وكشفت الكثير من العوار والرفض الشعبي لهذه السياسات. ولا بأس أن تأخذ الحكومة التركية حذرها وأن تعدل الدستور كما حدث بالفعل من اجل إغلاق أي باب قد ينفذ منه العسكريون الاتراك إلي الشأن السياسي, فهذا شأن تركي داخلي بامتياز, أما أن تصبح متعة أردوغان اليومية هي الحديث غير اللائق عن الجيش المصري والاستهانة بإرادة الشعب المصري وإهانة الرموز السياسية والفكرية, فهذا هو العبث بعينه ولا امكانية للتسامح معه. وأقل ما يقال هنا ليس فقط أن يصمت الساسة الاتراك عن مثل هذه التصريحات السخيفة, بل أيضا تقديم اعتذار رسمي والتعهد بعدم تكرار الأمر ثانية. صحيح هناك استثمارات تركية كبيرة في مصر, وهناك تبادل تجاري يقترب من6 مليارات دولار سنويا, وهناك مصالح أمنية وعسكرية مصرية تركية مشتركة تعود إلي عقدين من الزمن, لكن الصحيح أيضا أن مصر دولة ذات سيادة وتعرف مصلحتها جيدا وليست بحاجة إلي نصائح اردوغان ولا خطة طريق سياسية للتحول الديمقراطي يقدمها الرئيس جول للسفير المصري وكأن مصر تحت الوصاية وتنتظر القرار من انقرة وما عليها سوي الاستجابة. وإذا كانت ثمة نصيحة يريد هؤلاء المثقفون والصحفيون المقربون من تركيا قولها, فليقدموها إلي أصدقائهم هناك في اسطنبولوانقرة بأن يكفوا عن هذا العبث وأن يحترموا إرادة الشعب المصري ويتقبلوا الأمر الواقع, وأن ينسوا عودة الرئيس المعزول وجماعته إلي حكم مصر مرة أخري, وأن يحافظوا علي مصالحهم الاقتصادية والأمنية, وأن يصمتوا أو يقولوا شيئا محمودا. والأهم من كل ذلك أن يوقفوا كل عبث بأمن مصر وشعبها. ويكفي فشلهم الذريع في سوريا وما فعلوه من أجل تحويلها إلي بلد خراب. وهو أمر جلل لن ينساه التاريخ, ولن ينساه الشعب السوري. إن الذين يتباكون علي المصالح الاستراتيجية التي يمكن أن تخسرها مصر إذا وقفت موقفا صلبا تجاه التحرشات التركية, عليهم أن يوجهوا نصائحهم إلي السيدين أردوغان وجول, عليهم ايضا ألا ينكروا حق الاعلاميين المصريين في فضح ورفض هذه المواقف التركية البعيدة تماما عن الحصافة وعن آداب التعامل مع إرادات الشعوب. وعلي الجميع أن يدرك خاصة الأصدقاء القدامي في اسطنبولوانقرة أن مصر ليست تابعة لأحد, وأن شعبها هو صاحب القرار فيها, وأن ما يقره الشعب المصري فهو ليس محل مساومة من أحد لا في الداخل ولا في الخارج. وإذا كان هناك من يحلم ببناء عثمانية جديدة تشمل عدة بلدان في الشرق الاوسط بما فيها مصر, من خلال التلويح بشعارات دينية وبالتعاون مع جماعات وتنظيمات عابرة للحدود تستغل الدين وهو منها براء, والزعم بأنهم يضعون اللبنات الاولي لدولة الخلافة الحديثة التي تقودها تركيا, فرسالتنا واضحة وبسيطة جدا, فلتنسوا تلك الأوهام وعودوا إلي رشدكم, فمصر بلد كبير الحجم والوزن, وأكبر كثيرا من أن تكون ولاية عثمانية تديرها اسطنبول أو انقرة. لقد ولي زمن الاستعمار والاستعباد. والشعب الذي قام بثورتين لم يعرفهما التاريخ الحديث علي اثنين من الزعماء في أقل من ثلاث سنوات, في مواجهة استبداد الأول وتراخي الثاني واستعداده لبيع الأرض المصرية وقبول الوصاية الخارجية, بالتأكيد هو شعب واع يدرك مصلحته جيدا ويؤمن بشدة أن جيشه هو مؤسسة وطنية تحمي الوطن والشعب وتضحي من أجل حريته ولا تعرف الخيانة أو الغدر, ولا تقبل ببيع الوطن او تأجير أراضيه او التنازل عن شبر منها. وأخيرا إلي كل الاتراك وإلي كل من يدافع عن مواقفهم المزرية.. مصر ليست ولاية عثمانية ولن تكون. "الأهرام"