يواصل السيد رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، إحراج الزعماء العرب بإنجازاته الاقتصادية المشرفة داخل بلاده ومواقفه السياسية الداعمة للقضايا العربية، وخاصة قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي للمقدسات العربية والإسلامية في القدسالمحتلة. أردوغان حط الرحال في القاهرة، بعد أيام معدودة على طرده السفير الإسرائيلي من أنقرة، واقتحام المحتجين المصريين للسفارة الإسرائيلية في العاصمة المصرية وإجبار دبلوماسييها على الهرب من الأبواب الخلفية، متخفين بجلاليب صعيدية وكوفيات فلسطينية، ليحظى باستقبال كبير من الشعب المصري الذي تجمعت أعداد غفيرة منه أمام مطار القاهرة حتى موعد وصول طائرته في منتصف الليل، للتعبير عن حبهم له وإعجابهم بمواقفه، وهو ما لم يحدث لأي زعيم عربي منذ عشرات السنين. اللافت أن إسرائيل وبعض الأنظمة العربية التقت على إظهار العداء لأردوغان والتشكيك في مواقفه واغتيال شخصيته وإظهار كل العداء له ولنواياه، كل لأسبابه طبعا. إسرائيل تعادي أردوغان بسبب دعمه للقضية الفلسطينية، وإرساله سفن الحرية لكسر الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، وإصراره على اعتذارها الواضح والصريح عن قتلها لتسعة من النشطاء الأتراك كانوا على ظهرها، وتهديده بعدم السماح لها، أي إسرائيل، باستغلال ثروات البحر المتوسط من النفط والغاز لوحدها، وتأكيده أنه سيرسل سفن الأسطول التركي لحماية قوافل كسر الحصار في المستقبل لمواجهة أي عدوان إسرائيلي يمكن أن يستهدفها، والأهم من كل ذلك أنه يعرض تحالفا استراتيجيا على مصر لمواجهة الغطرسة والاستفزاز الإسرائيليين، والانتصار لقضية نسيتها الأنظمة العربية عندما ابتلعت كل ممارسات الإذلال والإهانة التي تجسدت في رفض مبادرة السلام العربية، وشن الحروب على غزة ولبنان. بعض العرب، والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الخليجية الأخرى خصوصا، تظهر التشكيك في نوايا السيد أردوغان ومواقفه، تحت عنوان الخوف من الهيمنة التركية على المنطقة، مثلما فهمنا من بعض وسائلها الإعلامية، وبروز زعامته في العالم الإسلامي. منتقدو السيد أردوغان من العرب يتهمونه بكونه يركب القضية الفلسطينية لتكريس هذه الزعامة، ويتصدى لإسرائيل وحصارها لقطاع غزة من أجل كسب عقول وقلوب الشباب العربي، في وقت نسي فيه هؤلاء الشبان هذه القضية، بدليل أنهم لم يحرقوا علما إسرائيليا أو أمريكيا أثناء انتفاضاتهم الشعبية ضد الأنظمة الديكتاتورية القمعية. ولا نعرف متى كان الانتصار للقضية المركزية العربية والوقوف في خندق العداء للدولة التي تحتل المقدسات وتذل الأمة يعتبر نوعا من العيب يعاير به صاحبه، ثم من قال إن الشعوب العربية نسيت قضية فلسطين ومقدساتها؛ فإذا كانت هذه الشعوب لم تحرق علما إسرائيليا أو أمريكيا، فذلك قمة الذكاء حرصا منها على انتصار ثورتها في إزالة أنظمة كانت أدوات قمع في خدمة العدو الإسرائيلي. فالقوى الوطنية التونسية الممثلة للثورة أصرت على وضع بند في الدستور الجديد ينص صراحة على عدم التطبيع مطلقا مع العدو الإسرائيلي، أما شباب الثورة المصرية فاقتحموا السفارة الإسرائيلية وبعثروا محتوياتها من وثائق، وأنزلوا العلم الإسرائيلي وداسوه بالأقدام قبل أن يحرقوه ويرفعوا العلم المصري مكانه. الشيء الوحيد الذي يوحد الشعوب العربية والإسلامية هو الكراهية للاحتلال الإسرائيلي، وشاهدنا المظاهرات تنطلق في معظم العواصم والمدن الإسلامية والعربية تنديدا بالعدوانين الإسرائيليين الأخيرين على قطاع غزة وجنوب لبنان. وإذا كان السيد أردوغان يصطف إلى جانب هذه الشعوب، فما الخطأ في ذلك؟ انتهازية سياسية؟ ولمَ لا.. فالسياسة هي فن انتهاز الفرص وتحقيق المكاسب، وماذا فعل الواقعيون العرب، وما هي إنجازاتهم غير القمع والفساد والترحيب بالهيمنة الاستعمارية الأمريكية والإسرائيلية وتوظيف كل الأموال العربية في خدمة حروبها واحتلالاتها للأراضي العربية والإسلامية؟ أردوغان يحصد شعبية في المنطقة في أوساط الشباب لأنه يعرف كيف يخاطبهم، مثلما يعرف كيف يتحسس مشاعرهم من خلال تقديم النموذج الديمقراطي الناجح، المدعوم بإنجاز اقتصادي كبير جعل من الاقتصاد التركي سادس أقوى اقتصاد في أوربا، والمرتبة 17 على مستوى العالم بأسره، وهو اقتصاد مبني على قيم العمل والإنتاج وليس على النفط والغاز. وما يثير الدهشة أن بعض قادة حركة الإخوان المسلمين أعرب عن مخاوفه من طموحات الهيمنة لدى أردوغان على المنطقة، وانتقد حديثه عن كون الدولة العلمانية لا تتعارض مع الدين الإسلامي وقيمه وتعاليمه، وهم الذين كانوا يضربون المثل في نجاح التجربة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية في النهوض بتركيا ونفي ما كان يشاع دائما في الغرب والشرق حول وجود تناقض بين الديمقراطية والإسلام. نفهم الاعتراضات هذه على أردوغان، والخوف من تطلعاته في الهيمنة لو أنها جاءت من التيارات القومية التي تتعصب للهوية العربية للمنطقة وتعتبر الخلافة العثمانية الإسلامية استعمارا تركيا امتد لخمسة قرون، ولكن أن تأتي من حركة الإخوان المسلمين فهذا أمر يستعصي على الفهم بالنسبة إلينا على الأقل. السيد أردوغان يحكم بقيم الدين والعدالة وليس بالشعارات، ويقرن القول بالعمل، وينتصر للمظلومين من أبناء الأمة الإسلامية، ويكفي أنه وصل إلى مصر على رأس وفد وزاري ضخم وفريق يضم 280 من كبار رجال الأعمال الأتراك، حاملا مشاريع تعاون اقتصادي يمكن أن تخلق الوظائف لآلاف العاطلين من الشباب المصري، وبما يفيد مصالح البلدين. الزعماء العرب الذين يزورون مصر في المقابل يأتون محاطين برهط من الأطباء المتخصصين في أمراض القلب والسكر والضغط وسرطان البروستات، لأن معظمهم انتهى عمره الافتراضي منذ سنوات. من المؤسف أنه، وفي ظل العجز العربي الرسمي المتمثل في الأنظمة الديكتاتورية القمعية التي ما زالت تجثم على صدر الشعوب العربية، بات التهجم والتشكيك في زعماء الدول الإسلامية الناهضة والمتصدية للإسرائيليين هو النغمة السائدة، فقد انتقدوا إيران لأنها شيعية فارسية، وقالوا إنها خطر على السنة العرب. الآن لماذا ينتقدون أردوغان المسلم السني، وما هو الخطر الذي يمثله عليهم؟ الخطر هو النموذج التركي الديمقراطي المدعوم بتجربة اقتصادية مشرفة، أثبتت نجاحها في ظل تهاوي الاقتصاديات الأوربية والأمريكية.. انهضوا من سباتكم وقدموا إلينا نموذجا مثله، وسنكون أول من يصفق لكم ويقف ضد هيمنة أردوغان أو إيران، أما عندما ترحبون بالهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وتخضعون لها باعتبارها هيمنة حميدة، وترفضون هيمنة تركية إسلامية مزعومة، فهنا نقول لكم لا وألف لا.