بعد هزيمة حزيران المفجعة، تقدّم الرئيس جمال عبد الناصر باستقالته، وأعلن أنه يتحمل كامل المسؤولية عن الهزيمة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تدفقت الجماهير بالملايين إلى القاهرة، من المدن، والكفور، والنجوع، وتمترست في الساحات العامة، وزحمت شوارع القاهرة، وحاصرت بيت الرئيس، وطلبت منه أن يعود عن الاستقالة، ويستأنف القيادة، لأن المعركة يجب أن تستمر مع العدو الصهيوني، فما حدث لم يكن سوى جولة في حرب مفتوحة وطويلة. عاد جمال عبد الناصر عن استقالته، وبدأ فورا بإعادة بناء القوات المسلحة، وبمحاكمة المقصرين في القيام بواجبهم، وتم وضع الكفاءات العسكرية في المواقع القيادية. ما هي إلاّ أيام حتى اشتبك الجيش المصري الذي لملم شتاته، مع قوات الاحتلال الصهيونية التي وقفت على ضفة القنال منتشية (بالنصر) السهل. تواصلت حرب الاستنزاف، وتصاعدت، وقبل الرئيس ناصر بمشروع روجرز، وابلغ قيادة المقاومة الفلسطينية: روجرز ضد روجرز، والعدو لن يقبل المشروع، ونحن أعلنا قبوله لالتقاط الأنفاس، ومواصلة البناء، والاستعداد. شرع الجيش المصري ببناء حائط الصواريخ الذي ستعبر تحت غطائه قوات جيش مصر، جيش العبور والتحرير، وكانت تلك معركة الدم والصبر التي مهدت لعبور جيش مصر يوم 6 تشرين أوّل/اكتوبر، بعد رحيل ناصر بثلاث سنوات. كان السادات يردد في كل خطاباته أن صبر مصر نفد، وأن المعركة ستبدأ قريبا، وعام 71 تعلل بالحرب الهندية الباكستانية، وبرر إحجامه بأنه كان هناك (ضباب) يحجب الرؤية في العالم بسبب تلك الحرب، فانتباه العالم كان موجها إليها ومركزا عليها. ثلاثة جيوش شاركت في الحرب، جيشان بشكل رئيسي، وجيش العراق رديفا، وهذا كان شأنه، فهو دائما كان الجيش الذي يُنتخى به فيجيب. للتذكير: الجيش العراقي شارك في كل حروب العرب المعاصرة. يوم 6من تشرين أول، بعد الساعة الثانية ظهرا بقليل، جاءتنا أول البرقيات التي تنبئ عن وقوع الحرب التي طال انتظارها، وعلى الجبهتين. كنّا نعمل في مكتب (الإعلام الفلسطيني الموحد) المجاور لوكالة (سانا) السورية، ومع الفرح والاستبشار، بدأ القلق، فحروب العرب المعاصرين لم تحقق لنا فوزا، ولم تجلب لنا انتصارا، منذ تدخلت الجيوش (المسكينة) الفقيرة العدد والعُدّة، جيوش ما بعد الاستقلال في حرب فلسطين عام 1948، فكانت النتيجة ضياع 78′ من أرض فلسطين، وبروز دولة الكيان الصهيوني، وتشرد عرب فلسطين، وبقاء قلة منهم تحت الاحتلال، وهم من يمثلون منذ ذلك الوقت شوكة في قلب المشروع الصهيوني. لم نغادر مكتب الإعلام إلى بيوتنا، بل واصلنا عملنا، لمتابعة أخبار (الجبهتين) ونحن على أعصابنا. في السماء رأينا طائرات الميغ وهي تندفع مارقة في سماء دمشق، ومتوارية وراء الأفق، فكنا نتساءل: أين تقصف، وهل تشتبك مع طائرات الكيان الصهيوني، ونحمد الله أن الطائرات كانت تعود، ونسمع هبوطها، ثم تدوي المدفعية المضادة للطائرات، وتنطلق صورايخ (سام6) التي كانت مفاجأة الحرب، والتي رأينا بالعيون المجردة كيف أسقطت طائرات العدو. جيشان خاضا غمار تلك الحرب، وأبليا في الأيام الأولى بلاء مشرفا، وقوات فدائية قاتلت في (جبهة) الجنوب اللبناني، وجيش العراق تقدم بسرعة قاطعا الصحراء، ووصل وشارك في المعركة على الجبهة السورية، وعسكر في الغوطة متأهبا للدفاع عن دمشق. بعد أربعين عاما على حرب تشرين، يمكن القول أن تلك الحرب مرّغت أنف جيش الصهاينة، وبرهنت على شجاعة وجسارة الجندي العربي، وعلى دقة التخطيط، وأهمية وحدة الجيوش في الميدان. السياسة أفسدت نتائج تلك الحرب المجيدة، فالسادات اعتبرها حرب تحريك، ومضى وحده حتى وصل إلى كامب ديفد، وأبرم تلك الاتفاقيات المشئومة مع العدو، وأدار ظهره للشريك السوري في الحرب، ولكل العرب، واعتبر أن حرب تشرين هي آخر الحروب في المنطقة! أضعف السادات العرب، ومزّق صفوفهم، وعزل مصر، وفتح أبوابها لأمريكا، وللخراب الاقتصادي، وأخرجها من دورها القيادي، وتسلمها من بعده مبارك الذي أدخلها في (موات) تواصل ثلاثين عاما إلى أن ثار عليه شعب مصر وعزله. بعد أربعين عاما على حرب تشرين ماذا نرى؟ العراق دُمّر، وجيشه تم حلّه، وهكذا خسر العرب جيشا محترفا مجربا عروبيا. المقاومة الفلسطينية العسكرية أُنهيت باتفاق أوسلو، وها هما سلطتان تقتتلان سياسيا وتضعفان القضية الفلسطينية! جيش سورية يخوض معركة حفظ وحدة سورية، وضمان تماسكها، في مواجهة قوى الإرهاب المرتبطة، التي تؤدي دورا محددا: تخريب سورية، وتمزيق وحدتها، وتدمير نسيجها الاجتماعي والوطني. وفي مصر يخوض الجيش معركة (استعادة) سيناء التي ضيعها السادات باتفاقات كامب ديفد، عندما أبقاها تحت هيمنة قواعد الرقابة الأمريكية، وخاضعة للشروط (الإسرائيلية) التي تمنع تواجد قوات الجيش المصري بوحدات كافية لصون مصرية سيناء، وسيادة مصر عليها. على أرض سيناء يخوض جيش مصر اليوم حربا لتحريرها من الإرهابيين الذين (غزوها) واتخذوها منطلقا لهيمنتهم، وتوسعهم، وتهديدهم للدولة المصرية، ولسيادة جيش مصر. بعد أربعين عاما من حرب تشرين يعود جيش مصر لخوض حرب تحرير سيناء، والسيادة عليها، وهي حرب لا بد أن تستمر حتى (استعادة) سيناء لحضن مصر الأم، بحيث يعود جيش مصر للوقوف في وجه التوسعية الصهيونية. لا عجب أن الجيشين السوري والمصري: الجيش الأول للجمهورية العربية المتحدة، والجيشين الثاني والثالث المصريين، تخوض معركة واحدة، فعلى امتداد التاريخ خاض جيشا مصر وسورية حروب تحرير العرب من الفرنجة، والمغول، والأطماع الصهيونية، وخلفهما كان جيش العراق الذي (باعه) عرب التآمر بحجة الوقوف مع شعب العراق ضد (دكتاتورية) الرئيس العراقي صدام حسين! أليس هذا ما يحاولون فعله مع سورية، وأيضا مع مصر؟! ألا يوظف نفط العرب للتآمر على العرب المعاصرين، وتدمير طاقاتهم؟ ألا يتحالف هذا النفط مع الكيان الصهيوني بحجة التصدي للبرنامج النووي الإيراني؟! في الذكرى الأربعين لحرب تشرين أكتوبر المجيدة، نستعيد مجد النهوض من كبوة هزيمة حزيران، ونستذكر بطولات جيوش عربية حملت دائما عبء تحرير المشرق العربي من الهجمات التي استهدفته، ونتوقف عند النتائج السياسية الكارثية التي تسببت بها السادات. الفرق كبير بين من يُهزم ثمّ ينهض، ويستعد من جديد، ولا يتنازل، ولا يفرّط، وبين من يتسلم جيشا عظيما يخوض به (نصف) معركة، ويبيع نتائجها، ويخون الأمة كلها. بعد أربعين سنة من التيه والضياع، هانحن نرى بوادر حقبة جديدة، نراهن على إمكانية أن تكون بداية لنهوض عربي، يعيد الاعتبار لكل قضايا الأمة المقدسة: فلسطين، ووحدة الأمة العربية، والسير بخطى أكيدة إلى المستقبل الذي تأخذ فيه الأمة دورا لائقا بها. وهو يوقع على اتفاقية كامب ديفد، صرّح السادات زافا البشرى لقادة الكيان الصهيوني: حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب! ولكن حروبا عدوانية صهيونية شُنت على لبنان، وقطاع غزة، فالعدوانية الصهيونية ستبقى تهديدا للأمة كلها، رغم اتفاقات السلام الكاذبة. الجيشان اللذان خاضا حرب تشرين يقاتلان اليوم، جيش مصر على أرض سيناء لكنس الإرهاب منها، وجيش سورية لحماية وحدة سورية وأمنها الداخلي، وهما معا سيقفان ذات يوم غير بعيد في وجه الكيان الصهيوني، فسيناء مُحتلة، والجولان محتل،وحرب تشرين/ أُكتوبر لن تكون آخر الحروب مع الكيان الصهيوني، وسوف نرى... "القدس العربي"