يُستدل من تجارب الأمم على أن من شأن النكبات والنائبات والنازلات والنكسات والهزائم والكوارث والمصائب والصدمات التي تُلِم بأمة ما أو تداهمها في غفلة من الزمن أن تستنهض الأحاسيس الوطنية والقومية والدينية مجتمعة أو منفردة لدى أبنائها، وتدفعهم للبحث في مجريات الأحداث وتقصي بواعثها وأسبابها ودوافعها وإجراءِ عمليات نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عندهم واستخلاص الدروس والعبر التي تمكنهم من إصلاح الحاضر وقياسه بالماضي تهيئةً لإعداد مستلزمات المستقبل. ويُستدل من تلك التجارب أيضاً على أن شيئاً من ذلك لا يمكن تحقيقه ما لم يتسنّ لأبناء هذه الأمة أن يوفروا لأنفسهم زاداً كافياً من الوعي والإدراك والقدرة على استنباط وسائل المواجهة، وأن يختزنوا في داخلهم قسطاً وافياً من الإيمان والوطنية والكرامة والإباء والعزة والعزيمة والإرادة. أما إذا افتقروا إلى هذه مجتمعةً أو إلى بعضها وكانوا رازحين تحت وطأة التبعية والاستعباد وأعباء التخلف والجهل والفُرقة والاستكانة والاستسلام، فإن نكبةً أو نائبة أو نازلة أو نكسة أو هزيمة أو كارثة أو مصيبة أو صدمة واحدة تكفي لتمعن في قهرهم والتنكيل بهم دون أن تثور فيهم حمية أو نخوة أو يُستفزُ عندهم رد فعل إيجابي واحد يدفعهم إلى النظر في كيفية إصلاح أحوالهم وأحوال أمتهم. ما من شك في أن التطرق لموضوع نكبة فلسطين "15مايو/أيار 1948" ونحن لم نزل في أجواء ذكراها الثانية والستين يقودنا إلى الاعتراف بأن كلمة "النكبة" لا تكفي أبداً للإيفاء بالتعبير عما حصل في ذلك التاريخ، خاصةً عندما يتم النظر إليها على خلفية الأحداث التي سبقتها والآثار والإفرازات والتداعيات السلبية التي ترتبت عليها والتي لم تزل تترتب عليها حتى الآن، أكان ذلك على الصعيد القومي العربي أو الصعيد الوطني الفلسطيني. إنما وفي مطلق الأحوال لا بد من الوقوف عند هذه "النكبة" القاسية والمريرة وربطها بما سبقها وتبعها لاستخلاص الدروس والعبر حفاظاً على الذاكرة العربية وسعياً وراء تخزينها في ذاكرة الأبناء والأحفاد. فعندما أمعن الغرب الاستعماري في القرن التاسع عشر في استهداف العرب وفرض عليهم وصايته بقوة البطش والإرهاب، كانت النهضة العربية في عز توهجها. ويومها تساءل أقطاب تلك النهضة من أمثال محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني عن سر تفوّق الغرب على الأمة العربية واستعماره لها. ويومها لم يكن الكيان الصهيوني قد وجد بعد. وفي حينه تداعى هؤلاء إلى نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة العربية لغرض النهوض بها من كبوتها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. لكن الاستعمار الغربي بكل ما اتصف به من جبروتٍ وحقدٍ تحرك وفق استراتيجيته المعهودة القائمة على الاحتلال والتوسع ولم يمكنهم من ذلك. وما هو إلا وقت قصير جداً حتى أطلت الصهيونية العالمية بكل مخاطرها على هذه الأمة حين أعلنت في مؤتمرها الأول الذي انعقد في مدينة "بازل" السويسرية عام 1897 انتقالها من الإطار الفكري النظري إلى الإطار التطبيقي العملي من خلال طرح مشروعها الاستيطاني التوسعي الذي جاء امتداداً للمشروع الاستعماري الغربي. وعندما أمعن الصهاينة في عدوانهم على الفلسطينيين وأرضهم المقدسة تحت غطاءٍ سياسيٍ تمثل بوعد بلفور المشؤوم والقرار الدولي 181 وغطاءٍ عسكريٍ تمثّل بالانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية التي استوردها ذلك الانتداب من الشرق والغرب الأوروبيين والولايات المتحدة الأميركية وأعلنت قيام الكيان الصهيوني في 14 مايو/أيار 1948 على حساب فلسطين وتشريد شعبها، كانت الأمة العربية تشهد بروز تياراتٍ أيديولوجيةٍ وحزبيةٍ ومنظماتٍ ثوريةٍ كثيرة. كما كانت تشهد ظهور شخصياتٍ فكريةٍ عربيةٍ بارزة. ويومها تساءل أقطاب تلك الأيديولوجيات والأحزاب والمفكرون العرب عن سر تفوق التحالف الغربي - الصهيوني على الأمة العربية وقدرة الصهاينة على احتلال فلسطين وتشريد شعبها. وتداعى هؤلاء إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ جديدٍ ومراجعةٍ جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة العربية لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. وعندما أمعن الكيان الصهيوني المدعم بجسر جوي عسكري أميركي في عدوانه السافر في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 وهاجم الأمة العربية عِبْرَ دول المواجهة وتمكن في حربٍ خاطفةٍ وصاعقةٍ من احتلال كامل التراب الفلسطينيوسيناء المصرية والجولان السورية وبعض المواقع الاستراتيجية في خليج العقبة الأردني، كانت الأمة تشهد مداً قومياً بلغ من الذروة ما بلغه وبلغت معه الآمال عند العرب مبلغها أيضاً، بفعل التغيرات السياسية التي حدثت في العديد من الدول العربية، والتي أحدثت بدورها إنجازاتٍ ومكاسب كبيرةً سواء على صعيد انتزاع الحقوق من الدول المستعمرة أو رد الاعتداءات التي قامت بها تلك الدول، وذلك بفعل وجود قياداتٍ عربيةٍ تاريخيةٍ من أمثال الراحل الكبير جمال عبد الناصر وبفعل تصاعد الثورة الفلسطينية التي كان قد مضى على انطلاقتها عامان تقريباً. يومها، ومع حدوث تلك النكسة القاسية والأليمة التي نزلت بالأمة وخلفت ما خلفت من آثارٍ سلبيةٍ في نفوس أبنائها المتطلعين آنذاك إلى التحرر والوحدة والعدالة، تساءل السياسيون والمفكرون والمثقفون العرب عن سر استمرار تفوق التحالف الغربي الصهيوني على الأمة الذي أدى إلى تلك النكسة. ويومها تداعى هؤلاء كالعادة إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ ومراجعة جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة فيها لغرض استكشاف العلل والأسباب واستخلاص النتائج والعبر وتنبيه الرأي العام العربي إليها للنهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. حتى الانتصار الذي حققه العرب على الكيان الصهيوني في أكتوبر/تشرين الأول 1973 بتمكن الجيش المصري من تحطيم خط "بارليف" والعبور إلى شبه جزيرة سيناء وتمكن الجيش السوري من اختراق الحدود وتهديد العمق الصهيوني، مُدعمين بجيش التحرير الفلسطيني الذي ولد بعد معركة الكرامة التي كسر فيها المقاومون الفلسطينيون بمؤازرة الجيش الأردني "أسطورة الجيش الذي لا يُقهر"، أساء الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات استثماره سياسياً وطوعه لخدمة اتفاقيات كامب دافيد المهينة بعد أن أفرغه من مضامينه، دون أن يُعير انتباهاً يذكر لا للجبهة السورية ولا للحاضر والمستقبل العربيين. حتى ذلك النصر وجد من يتساءل حوله ويُنَّظر له ويتداعى للنقد الذاتي والمراجعة من أجله، بذات الطرق السابقة ودون أي مردود إيجابي. وتوالت "كَرَّةُ السَبْحة"، فمن احتلالٍ لجنوب لبنان عام 1978 إلى اجتياحٍ للبنان بما فيه عاصمته بيروت عام 1982 إلى غزوٍ واحتلالٍ للعراق بما فيه عاصمته بغداد عام 2003 إلى عدوان فاشي آخر على لبنان عام 2006 إلى العدوان البربري ضد قطاع غزة قبل عام وبضعة أشهر واستهدافها هي وبقية الأراضي الفلسطينيةالمحتلة حتى اللحظة الراهنة. عاصمتان عربيتان سقطتا ولا حياة لمن تنادي وقبلهما سقطت زهرة المدائن. ومن نكبةٍ إلى نائبة إلى نازلة إلى نكسة إلى هزيمة إلى كارثة إلى مصيبة إلى صدمة، ولم يزل أقطاب ورموز النهضة والتيارات الأيديولوجية والحزبية والسياسيون والمفكرون والمثقفون العرب يتساءلون عن سر تفوق التحالف الغربي - الصهيوني على الأمة العربية، ويتداعون إلى النقد الذاتي ومراجعة مكامن الضعف والقوة عند الأمة لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر دون جدوى. لكن يبقى الأمل موجوداً ومستمراً، طالما بقي هناك إرادة مقاومة في فلسطين والعراق ولبنان، وطالما أن المقاومة بقيت على ممانعتها وعنادها وإصرارها، وطالما أن الشعب العربي بقي محتفظاً بإرادته ومحافظاً على كرامته وثابتاً على مواقفه المبدئية بما فيها موقفه الداعم لهذه المقاومة بلا تحفظ ولا حدود ورافضاً لسياسة التهجين وفرض الاستسلام الأميركية الصهيونية المشتركة. فالأمة لن تكون بحاجةٍ بعد الآن إلا لمتسائلٍ ومتداعٍ ومراجعٍ عربي صادق وفاعلٍ يسعى للنهوض بها ويعمل من أجل استعادة حقوقها الضائعة وأمجادها الغابرة، وهو ما لا يتأتى إلا عن طريق المطالبة والمقاومة. وصدق من قال عن تجربة وطول صبر وأناة: ما ضاع حق وراءه مطالب مقاوم ومؤمن ووطني. ويبقى الأمل معقوداً على المطالبة المقرونة بالممانعة والمقاومة!! فقد أثبتت تجارب الأمم أن نهج الممانعة والمقاومة هو الطريق الوحيد لتحرير الأوطان من مغتصبيها. الدانمارك أيار 2010