في الجزائر، يثير استمرار هيمنة الاستيراد المخاوف، إذ تبتلع ما يربو عن 50 مليار دولار، بينها 2.7 مليار دولار تصرف لشراء القمح. وهذا يهدد الأمن الغذائي، خصوصًا إذ تأخرت البواخر عن الوصول. في تصريحات خاصة ب "إيلاف"، أكّد نايت عبد العزيز، رئيس كونفدرالية أرباب العمل الجزائريين، أن ما يحدث في بلاده يوفر مناخًا لاتساع نطاق مافيا الاستيراد، التي يصفها ب"الخطر الحقيقي"، قائلًا إن البنوك تمنح الأولوية للمستوردين، "ما يكبّد الخزانة العامة إنفاقًا خياليًا في بند الواردات، يزيد عن 60 مليار دولار كل عام". ويلفت عبد العزيز إلى أن غول الاستيراد آخذ في التعملق على حساب صفرية الإنتاج، في بلد لا ينتج حاجياته بالرغم من توافر مقومات نهوض تؤهل الجزائر لتجاوز ما حققته دول آسيا، لكن ثمة مشكلات جعلتها تقبع في الحضيض. تهليل غير حقيقي يستهجن الوزير السابق الدكتور عبد الرحمن مبتول محدودية القطاع الزراعي بخلاف التهليل الرسمي، "إذ اشترت الحكومة 6.5 مليون طن من الحبوب خلال سنتين، مع أن الحكومة ذاتها تفاخرت بتحقيق فوائض محترمة من الحبوب، في وقت يبرز للعيان ضعف التصنيع، وسط فجوات غير مفهومة بين القطاعين العام والخاص". وبلغة الأرقام، فاقت فاتورة الاستيراد في الجزائر عتبة 36 مليار دولار خلال ثمانية أشهر أولى من العام الجاري، وهي قيمة تنذر بتبعات وخيمة في بلد يشكو عجزًا في الموازنة وإضطرابات بالجملة، وتتجه الجزائر لتسجيل وارادات قياسية هذا العام، على نحو ينافي ما أعلنته الحكومة عن خفض كلفة الاستيراد، في وقت يستمر تكبيل الآلة المحلية المنتجة. وتبقى حكاية الاستثمارات مجرد فقاعات، تمامًا مثل الكلام الكثير حول كسر هيمنة النفط والانفتاح على الطاقات الايجابية. صناعية إلى مؤسساتية يؤثث واقع الجزائر الكثير من الخواص الاجتماعية والاقتصادية، في بلد يقول مسؤولوه إنّه يتمتع بفوائض مالية ضخمة، يقابلها جمود إداري وتراجع استثماري، وهو ما يفرض على طاقم الوزير الأول عبد المالك سلال تدارك الأمر للجم إفرازات الإخفاق الحاصل وتبعات الوقت الضائع. ويقرّ شريف رحماني، الوزير السابق للصناعة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وترقية الاستثمار، بأن الجزائر تعاني أزمة صناعية قد تتحول إلى أزمة اقتصادية ومؤسساتية، مشددًا على ضرورة معالجتها والعمل على الخروج منها في أقرب الآجال. أفاد رحماني بأن الحكومة مدعوة لتحريك الأمور عبر مساعدة المستثمرين الخواص، "واعتماد نظرة جديدة وأسلوب جديد عبر استراتيجية المرافقة، التي تسعى الحكومة من خلالها إلى تقييم سياستها الاقتصادية، وكذا ضبط المصاعب التي تواجهها وإيجاد الحلول لها". وأكد رحماني أن مهمة السلطات لا يجب أن تنحصر في التسيير والمراقبة، بل يجب عليهم إعطاء أهمية للاستثمار والبحث عن مستثمرين، "كما أن مرافقة المشاريع ملح من خلال التقرب من المواطنين من أجل مكافحة البطالة، وذلك من خلال خلق الثروات وتوسيع القاعدة المادية والتكنولوجية والعلمية للإنتاج". فشل متجدد يؤكد الدكتور ناصر بويحياوي أن مؤدى القرارات الحكومية منذ ثورة الزيت والسكر في الخامس من كانون الثاني (يناير) 2011، لها مدلول واحد يتلخص في كون المخطط الإنمائي بنمطه الحالي انتحاري، ولن يقود سوى إلى فشل متجدد، رغم استفادته من مخصصات قياسية، بحدود 286 مليار دولار، كان ينبغي توجيهها لتحرير الآلة المنتجة والاستثمار في القطاعات المدرّة للثروات. ويذهب بويحياوي إلى أن الغياب الواضح لاستراتيجية تنموية في الجزائر معطى ضرب اللحمة الاجتماعية وتوازناتها في الصميم، مع زوال الطبقة المتوسطة، وبروز فئة مثيرة للجدل يُطلق على المنتسبين إليها مسمى الأثرياء الجدد، وعليه يتصور أستاذ العلوم الاقتصادية ضرورة تحوير مسلكيات المخطط الإنمائي، بحيث يركّز على التنمية البشرية وخلق الثروات ومناصب الشغل، بدل الدعم العارض للمنتجات الواسعة الاستهلاك، بشكل يستجيب للرهانات والتطلعات العاجلة للجزائريين. ويلاحظ بويحياوي، في تحليله ل"التنازلات" التي تستمر الحكومة في تقديمها للشارع المحلي، وجود إفلاس في الخيارات الاستراتيجية، فيرى أن السياسات الحكومية هي ردات أفعال أكثر من كونها أدوات تسيير منهجية ومدروسة، وذلك ناجم بحسبه عن سياسة اقتصادية تفتقد للتوجيه. غير دقيقة يشدد مسؤولون على أن الجزائر محصنّة بشكل تام ضدّ أي تقلبات محتملة. ويجزم جمال برشيش، المتحدث باسم وزارة الزراعة أن لا خوف مطلقًا، في وقت ينوّه كريم جودي، وزير المال، بالاحتياطي المحترم من النقد الأجنبي، الذي يجعل الجزائر محصنة ضدّ أي زوابع. لكن مبتول يشكك في هذا الكلام، ويتكئ على استيراد الجزائر لنحو 60 بالمئة من احتياجاتها من مادة القمح بنوعيه. ومع ارتفاع سعر الأخير عالميًا، فإنّ السلطات ستغدو مدعوة لدفع ثمن باهظ للحصول على الكمية المطلوبة، علما أن مراجع مطلعة تحدثت عن عرض إيراني لتصدير الحبوب إلى الجزائر، لقاء قيمة تقلّ بثلاث مرات عن السعر الفرنسي، إلاّ أن الجزائر رفضت عرض طهران لأسباب تظلّ مجهولة. وردًا على موجة التطمين الرسمية، يشير عارفون بخفايا الأمور إلى أن الأرقام المُعلنة غير دقيقة، وحتى تباهي المسؤولين بخمسين مليون دولار كصادرات زراعية قيمة محدودة برأيهم في قطاع يشكو فوضى وضحالة، إذ يؤكد يحيى زان، الأمين العام لاتحاد المهندسين الزراعيين، أن حجم الأراضي المسقية في البلاد لا يتعدى نسبة 4 بالمئة، إضافة إلى الظروف المناخية الكارثية، ما يكرّس الحل السهل وهو الاستيراد. استثمارات تكسر الجمود يحيل عبد الكريم منصوري، المدير العام للوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار، إلى انتعاشة وشيكة مع إطلاق حزمة مشروعات مع بدء إنجاز 90 استثمارًا بينها 57 مشروعًا صناعيًا و24 لمتعاملين أجانب، بالتزامن مع مساعي لنقل الحراك من العاصمة إلى محافظات الجنوب والهضاب. ويذهب منصوري إلى أن المعطى المذكور يؤشر على أن المرحلة القادمة ستتجاوز الأعطال والعثرات، معتبرًا أن هذا الاتجاه نحو الارتفاع يختلف بوضوح مع التباطؤ الذي ميز السنة المنصرمة، معلقًا: "لدينا سياسة واضحة، وكل الهيئات مجندة من أجل تشجيع الاستثمار وتقليص فاتورة الواردات". وينفي المسؤول ذاته صحة تراجع الاستثمارات الأجنبية في الجزائر، واعتبر أن التقارير الدولية التي تشير إلى تدحرج وعاء هذه الاستثمارات غير دقيقة، مبرزًا أن هناك مشاريع أجنبية كثيرة مختلطة، مع شركات ومستثمرين جزائريين، حيث قال: "هناك مشاريع استثمارية أجنبية أكثر مما كانت عليه قبل إقرار وتطبيق هذه القاعدة". مفارقات تؤجج التقلبات في ظرف حساس يُفترض فيه تطبيق التقشف، ودفع آلة الانتاج الوطنية بدل التمادي في إغراق الأسواق بسلع ما وراء البحار، يعني تنامي الواردات بلسان من تحدثوا ل "إيلاف" إمعانًا في تبعية مخيفة، ستؤدي إلى غياب توازنات تضرّ بخارطة غذائية وطنية مهزولة، مع أنّه يمكن لمنطقة زراعية واحدة بحجم محافظة معسكر الغربية أن تسدّ حاجات كل الجزائريين من البطاطا. وتطفو تلك المفارقة الغريبة التي يتغلب فيها المستورد على المُنتج، ما أفرز عديد التقلبات التي طبعت، ولا تزال سوق المواد الغذائية على مستويات عديدة، في صورة مسلسل الارتفاع الفاحش والمخيف لأسعار المواد الأكثر استهلاكًا. واللافت أن القطاع الغذائي قائم في كلياته على تبعية كبيرة للأسواق الدولية، حيث تقوم الحكومة كل عام بضخ أغلفة ضخمة للوفاء بحاجيات البلاد من سائر الأغذية، بنسبة تصل إلى حدود 70 بالمئة، تبعًا للعجز عن تحقيق الحد المطلوب من الاكتفاء الذاتي، ما أورث عبئًا هائلًا يثقل الكواهل منذ عشريتين. عجز في الحليب تعدّ الجزائر من أكبر المستوردين عالميًا لمادة القمح الاستراتيجية، ب 2.5 مليون طن من القمح اللين و2.6 مليون طن من القمح الصلد، تمامًا مثل السكر. كما تتموقع الجزائر في مقدمة الدول المستوردة للسكر في العالم ب267.9 مليون دولار كل عام. ويبلغ الطلب المحلي على السكر الأبيض نحو 1.5 مليون طن سنويًا. وأسهم انسحاب الدولة من منظومة الانتاج، وبقاء الساحة رهينة قطاع خاص غير منظم، في إشاعة جو من الفوضى بسبب الضغوطات الممارسة من المستوردين المحليين، رغم الحديث عن امكانات لتصدير 900 ألف طن من السكر إلى أسواق خارجية. ورغم بلوغ فاتورة الواردات مستوى قياسيًا، إلاّ أن ذلك لم يف بالمطلوب، وانجرت عنه ندرة وغلاء في الحليب الذي تنتجه الجزائر بمعدل 2.2 مليار لتر سنويا، بينما يبلغ إجمالي الاستهلاك ثلاثة ملايين لتر من الحليب، ما يمثل عجزًا ضخمًا، يتم معه إنفاق 600 مليون دولار سنويًا، للوفاء بالطلبات المتزايدة على هذه المادة الحيوية. الأخطر قادم يشدد فؤاد شحاط، المدير العام للمعهد الوطني للبحث الزراعي، على أن فاتورة الواردات الجزائرية مرشحة للارتفاع أكثر، كون أسعار الغذاء في الأسواق الدولية مرشحة لارتفاع أكبر. وأشار شحاط إلى أن العالم مقبل على أزمة غذاء سترفع من أسعاره في الأسواق الدولية، وأن مواصلة الاعتماد على الواردات لتغطية الطلب المحلي سيرفع من الأسعار، وسنصل إلى مرحلة لا يمكن الحصول على تلك السلع رغم الوفرة المالية في البلاد. وبخصوص القمح، ذكر شحاط أن الجزائر تدفع أكثر للحصول عليه في الأسواق الدولية، "وعليه الواجب هو تطوير القدرات التي تمكن من تقليص الفاتورة". ويبرز شحاط محدودية الوعاء البشري في القطاع الفلاحي، الذي لا يستوعب أكثر من 29 ألف شخص، في حين أن عدد المرافقين التقنيين للفلاحين يصل إلى نحو ألفي تقني. ويلاحظ شحّاط أن هذه القدرات البشرية والعلمية غير قادرة على ضمان اكتفاء ذاتي، يمر حتمًا عبر استغلال عقلاني لخمسين مليون هكتار كأراضي فلاحية، 42 مليون هكتار منها في الهضاب العليا، وبالتالي تحتاج إلى مرافقة تقنية وكفاءة عالية للخبراء وعدد كاف من الفلاحين لتنميتها. 94 وصفة للانبعاث طرح أرباب العمل وفريق من النقابيين 94 وصفة لتسريع حلقات الإنماء الاقتصادي، وانعاش الاستثمارات، وكسر الشللية المهيمنة على مختلف مفصليات النشاط الاقتصادي، لا سيما مع وقوع نصف مليون مؤسسة تحت مقصلة الزوال. ويتفق كل من بوعلام مراكش ورضا حمياني، ونايت عبد العزيز على حتمية الانتصار لسياسة صناعية مغايرة تبسّط التشريعات تسهيلا للاستثمار، حتى لا تجتر البلاد حكاية الاستيراد المتفاقمة الحلقات رغما عن كل شيئ. وتحتدم مطالبات متعاملين بمنح ترياق خاص، يكفل تسريع حلقات المخطط الإنمائي الخماسي (2010 – 2014)، حيث يرى هؤلاء أن الخطوة تفرضها إخفاقات السياسة الاقتصادية المتبّعة وإفرازها لثورات لم تهدأ وسط الشارع المحلي، في صورة الإضرابات التي يفرضها مستخدمو أكثر من قطاع وباتت تهدد بأفق أسود. إعادة تنظيم الدولة يشدّد الدكتور عبد الحق لعميري على أن تحقيق الجزائر لانبعاث اقتصادي مرهون في أساسياته بإعادة تنظيم الدولة، وتوخي سياسات مجددة، مركّزًا على أن أكثرية الثروات في بلد مثل الصين تخلقه البلديات. ويوعز لعميري إلى أن تنظيم الدولة في الجزائر لا يساعد على تطوير الاقتصاد، متصورًا أن السياسة الحالية ستبقي الجزائر دولة ما دون خط النمو. ويلفت إلى أن القرار السياسي في الجزائر يلوّث المنظومة التقنية، ما جعل الاقتصاد سجين المناخ السياسي العائم، والاشكال الأكبر يتجلى في وجود مشكلات هيكلية بنيوية، ناهيك عن كون الفصيل الاجتماعي الاقتصادي السياسي ليس مهيكلًا بالشكل الذي يسهم في دفع قاطرة الاقتصاد. وألّح لعميري على حتمية استنساخ نماذج ناجحة، كما هو حاصل في الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وأندونيسيا والدول الاسكندنافية، داعيًا إلى استحداث مؤسسة تتولى رسم مخطط جماعي تكاملي.