هنالك شبه قاعدة في عالم السياسة، وهي أن وصول الأحزاب المهمة إلى الحكم كثيرا ما يعقبه حدوث انشقاق في صفوف الأعضاء. وهي قاعدة مفهومة جدا وذات منطق سليم، باعتبار أن الأحزاب هي أولا وأخيرا فضاء ممتاز للحوار الفكري السياسي الساخن، وأن ما يزيد من حدة النقاش وتعطله أحيانا داخل مؤسسات الأحزاب هو دور الآيديولوجيا وأثرها الكبير في تقديس الانضباط الفكري السياسي، الذي لا يمكن أن يستمر عند الجميع بنفس الدرجة عندما يصبح الحزب طرفا في اللعبة السياسية. ذلك أن السياسة هي فن الممكن والآني والواقعي والمناورات والتدرج، في حين أن الآيديولوجيا هي بناء صارم، والخيارات التي تشكل الأرضية الفكرية للحزب هي أفكار وتصور للحكم وللمجتمع وللتغيير الاجتماعي. أفكار تصاغ في مرحلة التقارب ووحدة الصف وإرادة تحقيق كينونة سياسية. هذه القاعدة العامة، يبدو أنها تنسحب على حركة النهضة التونسية التي تداولت النخب السياسية التونسية معلومات حول وجود صراعات داخلية داخل الحركة وتباين صارخ في وجهات النظر. وآخر هذه المعلومات المتداولة، ما صرح به السيد عبد الفتاح مورو، وهو أحد مؤسسي الحركة الإسلامية بتونس، من أن أيام راشد الغنوشي في رئاسة حركة النهضة باتت معدودة، وأن مجلس الشورى سيقصيه في أقرب الآجال تماما كما نجح في إبعاده. المشكلة أن ظاهرة التباين والصراعات داخل الحركة التي كثيرا ما تنفيها قيادات الحركة في وسائل الإعلام، وفي بعض الأحيان تؤكدها من باب استثمارها قصد إظهار البعد الديمقراطي للحركة وكيفية صياغة القرار الداخلي بشكل يقوم على مبدأ الشورى والتصويت - قد انتقلت إلى المستوى السلبي. ويمثل ما حصل في بداية هذا الأسبوع تغييرا نوعيا في مجال تصدير الحركة لصراعاتها الداخلية نحو الخارج؛ أي عموم الفضاء السياسي. ذلك أنه بعد أن أعلن رئيس حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، عن قبوله مبادرة الرباعي في نهاية الأسبوع المنقضي، مطالبا بالعودة إلى الحوار في بداية الأسبوع الحالي، وتجاوب الاتحاد والأطراف المعنية مع هذا التطور النوعي في موقف حركة النهضة والتزامها الواضح لأول مرة منذ اندلاع الأزمة التي تمتد لأكثر من شهرين... هذا أن مجلس الشورى المصغر لحركة النهضة، والمتكون من قرابة 70 عضوا، قد عبر البعض من أعضائه البارزين، الذين هم في نفس الوقت يحملون حقائب وزارية في تشكيلة الحكومة المؤقتة، عن رفضهم استقالة الحكومة (مبادرة الاتحاد تنص على الاستقالة الفورية للحكومة بمجرد قبول المبادرة)، وأيضا أنهم غير ملتزمين بموقف رئيس الحركة راشد الغنوشي وأن قبوله بالمبادرة موقف شخصي لا يمثل الحركة! وفي الحقيقة، تردد مثل هذا الكلام في وسائل الإعلام من طرف شخصيات قيادية مثل السيد نور الدين البحيري وأيضا رئيس الحكومة علي العريض (على لسان مستشاره الإعلامي) - يعد بداية انشقاق صريح داخل الحركة، وفيه تجاوز لرئاسة الحركة ولمنطق الجماعة الذي تقوم عليه الحركة، إذ حركة النهضة معروفة بأنها حركة ذات تنظيمية عالية، ويمتاز أعضاؤها، كحركة سياسية دينية، بالانضباط الحزبي، وتقريبا لأول مرة تشق عصا الطاعة لراشد الغنوشي على الملأ. فإن يصبح غسيل الحركة خارج مكاتبها ومؤتمراتها وهي التي انتهجت السرية طريقة في العمل - فهذا مؤشر تتوافر فيه كل الجدية اللازمة للبناء عليه والاستنتاج. فالواضح أن هناك تجاذبا كبيرا داخل الحركة، وأن الصراع هو في تحقيق المعادلة بين مبادئ الحركة وممارسة الحكم وفي التباين الشديد بين موقفين من مسألة الشرعية وعلاقة الدين بالدولة والسياسة. كان من الممكن للصراع الداخلي أن يكون علامة إيجابية لو لم يكن في السياق الصعب الذي تعيشه تونس. ففي ظل وضع متأزم وتكتل صف المعارضة، فإن هذا الصراع الداخلي غير المؤطر سيضعف حركة النهضة لدى ناخبيها وفي المشهد العام للأحزاب. صحيح أن الانشقاق قد عرفته حركة النهضة منذ أن كانت تسمى «الجماعة الإسلامية» في السبعينات من القرن الماضي عندما انشق أحميدة النيفر ومجموعة أخرى وكونوا تيار الإسلاميين التقدميين، ولكن ذلك الانشقاق على دلالته كان في مرحلة النضال الآيديولوجي الفكري، وسرعان ما طوت الحركة صفحته وعاشت على امتداد ثلاثة عقود في جو من اللحمة والانضباط، ذلك أن ما تعرضت له الحركة من محن وغربة وسجون زاد من صلابتها ومن لحمة مناضليها. أما اليوم، فإن شبح الانشقاق بدأ يعود، لأن الحكم فجّر التباينات والصراعات لديها. وما يحصل اليوم مع الغنوشي ليس أقل خطورة مما حصل في فبراير (شباط) الماضي عندما رفض مجلس الشورى داخل حركة النهضة مبادرة رئيس الحكومة آنذاك حمادي الجبالي (كانت مبادرته تنص على تشكيل حكومة كفاءات وطنية غير محزبة)، بل وجرى قبول استقالته بأعصاب باردة، رغم أن حمادي الجبالي هو الأمين العام للحركة ومن القيادات المهمة. ولعل أهم ما يمكن استنتاجه أن حركة النهضة في قبضة مجلس شورى تهيمن عليه الراديكالية. وهنا نتساءل: من قام بتحرير البيان الختامي للمؤتمر التاسع (2012)، أم أن البيانات رغم طابعها الإلزامي في اعتماد الوفاق هي أقل إلزامية من قرارات مجلس الشورى؟ قد لا يحصل انشقاق في الأيام أو الشهور القريبة المقبلة، ولكن مؤشرات الانشقاق بصدد التبلور، وتزداد تشكلا بارتفاع منسوب الغضب الحاجب للواقع والحكمة معا. "الشرق الأوسط"