بعد أشهر طويلة من إظهار الصلابة والتعنت أمام الهزات السياسية القوية التي عاشتها تونس، فإن تضافر عاملين؛ أحدهما خارجي والثاني داخلي، أجبر حركة «النهضة» التونسية صاحبة الأغلبية النسبية في الحكم، على تقديم تنازلات نوعية وتغيير التكتيك السياسي، باتباع أسلوب الأيادي المفتوحة، والإذعان للعاصفة السياسية والاجتماعية التي هبت ضد تنظيم الإخوان المسلمين. وقبل أن نفهم التحول النوعي في خطاب حركة النهضة في الأيام الأخيرة، فإن المنطق يستدعي تحديد مضمون هذا التحول ودلالاته. لقد جاء على لسان رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي أن «النهضة» لن تدعم ولن تتبنى مشروع قانون الإقصاء، وأنها تدعو إلى المحبة والتسامح والوحدة الوطنية والعيش المشترك بين الجميع، وأن إقصاء أي مواطن تونسي وإنزال أي عقوبة سياسية ضده هما من مشمولات القضاء. وفي الحقيقة، فإن توضيح هذه النقطة والتصريح برفض حركة النهضة الانخراط في دعم مشروع إقصاء التجمعيين والمصادقة عليه، يمثلان خطوة نوعية في خطاب الحركة؛ حيث إنه لأول مرة يجري الإعلان الصريح عن الرفض باعتبار أن الحركة كانت تتبع نهج المراوغة واللعب بهذه الورقة سياسيا وذلك من وراء ستار حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» صاحب اقتراح مشروع إقصاء آلاف التجمعيين السابقين من الحياة السياسية لمدة خمس سنوات. وهو قانون أثار منذ تاريخ اقتراحه جدلا طويلا، وظلت حركة النهضة تتبناه من دون أن تظهر بشكل أساسي في الصورة. وها هي نهاية صلاحية هذه الورقة السياسية قد حانت عندما حتّم تدهور الأوضاع ذلك، فكان التنازل، ولكنه مع الأسف بدأ متأخرا، وجاء في سياق داخلي وخارجي يشهد احتقانا وريبة ضد نخب الإسلام السياسي. وبالتمعن في كل المواقف المعلنة سابقا من حركة النهضة بخصوص مشروع قانون الإقصاء، وأيضا الدفاع المستميت لقياديين نهضويين، يمكننا الجزم بأن السياق السياسي الجديد في المنطقة قد أرغم «النهضة» على اتخاذ هذه الخطوة بعد أن بدأت الدائرة حولها تضييق أكثر فأكثر، فكانت التضحية بحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» الحليف في الترويكا، لأن «النهضة» دخلت في زمن سياسي حرج، يُخيِّرها بين الحياة أو الموت.. وهو ما يعني أن البعد السياسي حاليا هو المتحكم حاليا في خطاب الحركة وأدائها، خلافا لمواقف سابقة كانت فيها «النهضة» ضحية منطق المصلحة الحزبية الضيقة والخطاب «الإخواني» العقائدي. ولكن مع أهمية التحول النوعي في خطاب الحركة، فإن تأخره والفشل في تبني تكتيك الأيادي المفتوحة في فترة القوة لا الضعف، يؤثر في أهميته، وهو ما حصل واقعيا؛ حيث إن الطابع النوعي للمواقف النهضوية الجديدة لم يكن محل إجماع بين النخب السياسية، خصوصا أن الحركة المستهدفة من قانون الإقصاء؛ أي حركة «نداء تونس»، قد أصبحت قوية ورقما سياسيا ومنافسا جديا لحركة النهضة. لذلك، فإن حركة النهضة لم تقدم خطوات إيجابية بقدر ما قامت بتنازلات تفيد خصومها من دون أن تفيدها.. إنه تنازل نوعي، ولكنه نتاج النهاية المفاجئة والضربة القوية التي ألمت ب«إخوان مصر»، وأيضا النقد السلبي لتركيا وانكشاف أمر شعاراتها البراقة. وإلى جانب تأثيرات الزلزال المصري، فإن الضغط الداخلي من خلال اعتصام «باردو» والثقل الشعبي لمسيرات يومي 6 و13 أغسطس (آب) الحالي، إضافة إلى انطلاق ما سمته جبهة الإنقاذ «أسبوع الرحيل»، كل هذا قد فعل فعله في إرباك تنظيم النهضة وجعله يتبنى خطابا مختلفا فاجأ البعض، خصوصا في المضامين المتعلقة بحركة «نداء تونس»؛ إذ تحولت من حركة «شيطانية» تضم «أزلام النظام السابق»، إلى حزب شريك وكبير، وتحول قائده من رجل «طاعن في السن» عمل مع النظامين السابقين، إلى صديق تُحتسى معه القهوة في باريس! صحيح أنه لا يوجد صديق دائم أو عدو دائم في السياسة، ولكن الانتقال ب180 درجة من دون مقدمات يعد سلوكا صادما ممزوجا بالنوايا المفضوحة ومناطق الضعف المكشوفة. إن عدم التمييز بين ما هو مبدئي وما هو ظرفي سياسي يمكن اللعب به، خاصية سلبية تميز بها سلوك حركة النهضة، حيث كان من الممكن أن تعلن وبصوت سياسي عال رفضها مشروع القانون منذ اقتراحه.. ساعتها كانت ستبرهن عمليا على حرصها على الوحدة الوطنية وعلى كل التونسيين، وكانت ستحقق القوة التي أصبحت مهددة بفقدانها.. والأهم من كل هذا ربما كانت تجنبت العديد من الأزمات؛ وعلى رأسها الاقتصادية منها.. فهل يجب أن تتراجع حركة الإنتاج، وترتفع نسبة التضخم، ويتزايد العجز التجاري، ويضرب الإرهاب البلاد.. حتى تؤمن «النهضة» بضرورة التسامح والمحبة والوفاق؟ "الشرق الأوسط"