مؤكد أن الأغلبية الساحقة من العرب في مختلف أقطارهم مشرقاً ومغرباً لم تستقبل بالترحيب والتهليل اندفاع «الإخوان المسلمين» في مصر إلى احتكار السلطة واستبعاد مختلف القوى السياسية والشبابية خاصة عن المشاركة فيها بل والتورط في معاداتها، حرصاً على الانفراد بحكم الدولة العربية الأكبر، «المرجعية الشرعية» للقرار العربي. ذلك أن العرب قد عاشوا تجارب مريرة لحكم الحزب الواحد أفقدتهم بعض أقوى الدول العربية وأغناها وتسببت في كوارث قومية أهمها وأخطرها التمكين للعدو الإسرائيلي وللهيمنة الأجنبية على المنطقة، مشرقاً ومغرباً. أخطر هذه التجارب، وبعضها لما تنته مآسيها، تلك التي ذهبت بالعراق تحت حكم الحزب الواحد (البعث العربي الاشتراكي) لصاحبه صدام حسين، كما كانوا يتندرون في أرض الرافدين... وقد تورط ذلك الحكم حامل الشعار الحزبي (وحدة، حرية، اشتراكية) في حرب مديدة (لسبع سنوات) ضد الثورة الإسلامية في إيران، فاستنزف جيش العراق الذي كان العرب ينظرون إليه بأمل ويعتبرونه اخطر مصادر قوتهم في مواجهة العدو الإسرائيلي. ثم أن صدام حسين قد ورّط العراق وجيشه، ودائما تحت شعار الحزب القائد (أي البعث)، في غزو الكويت، وهي «العملية الانتحارية» التي ذهبت بالعراق كدولة وفككت وحدة شعبه وشردت الملايين من أبنائه في أربع رياح الأرض، ومكنت للاحتلال الاميركي الذي نهب مصادر الثروة وصولاً إلى المتحف والمكتبات بكتبها الخطيرة حافظة التاريخ. أما التجربة المريرة الثانية والتي لا يزال العرب يعيشون تحت وطأتها فتلك التي تتوالى فصولها المأساوية في سوريا التي يحكمها نظريا حزب البعث مموها سيطرته «النظرية» بجبهة وطنية تقدمية تضم بعض الأحزاب التي كل رصيدها أسماؤها ذات الرنين التاريخي، والتي يستخدم «الرئيس القائد» وسمعتها الطيبة لطمس واقع التفرد بالسلطة. ومع أن الكل يعرف أن الحزب إطار نظري للنظام يدفع عنه تهمة تفرد الرئيس (والمقرّبين منه) بالسلطة، إلا أن فرض الانتساب إليه للوصول إلى أي منصب، بل إلى أية وظيفة بسيطة في الدولة تجعله في الشكل وكأنه الحاكم... أما الجيش فمغلق على أعضائه المميزين، بحسب قربهم أو بعدهم عن مركز القرار. ومن قبل سوريا وبعدها العراق كانت هناك تجربة تونس مع الحزب الدستوري الذي قاده الحبيب بورقيبة خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، ثم تولى الحكم باسمه ومن موقع الأمين العام (الأبدي)، وظل يحكم حتى بعدما هدّه المرض وأفقده ذاكرته والقدرة على التركيز بعد ثلاثين عاماً أو يزيد في السلطة. ومع أن التاريخ يحفظ لهذه الأحزاب دورها التاريخي في نضال شعوبها إلا أن الأنظمة التي حكمت باسمها كانت، على وجه العموم تموه حكم «الرجل الواحد»... لقد ذهبت تجربة الحزب الواحد الذي غالباً ما انتهى إلى حكم الرجل الواحد بثلاثة بلدان عربية ذات أهمية تاريخية وذات تجربة سياسية غنية... يمكن إضافة الجزائر إلى هذه التجارب، برغم أن جبهة التحرير الوطني لها تاريخها الذي لا يمكن إغفاله في تحرير الأرض والإرادة من استعمار استيطاني فرنسي استطال لمئة وخمسين سنة... لكن الجبهة التي كانت تمثل قيادة الثورة خلال المواجهة المسلحة مع الاستعمار الفرنسي تفسخت بعد تحرير البلاد والسيطرة على الحكم، وسرعان ما أخلت موقعها في السلطة للجيش الذي لم يتردد في خلع الرئيس الأول المنتخب وأحد أبطال حرب التحرير، المجاهد الراحل احمد بن بله، ليتولى احد قيادييه البارزين، الراحل هواري بومدين منصب الرئاسة حتى وفاته... وما زال الجيش هو الحاكم حتى اليوم وإن موه سيطرته على القرار بالحزب الذي فقد دوره وصار مجرد واجهة تموّه سيطرة الجنرالات على مرافق الدولة كافة بالمخابرات. نعود إلى مصر وتجربة «الإخوان المسلمين» في الانفراد بالحكم. يبدو أن «الإخوان»، وهم أصحاب تجربة عريضة في العمل السياسي، فوق الأرض وتحتها على وجه الخصوص، قد استعجلوا أكثر مما يجب، وتجاهلوا القوة الشعبية الاساس، التي بادرت فنزلت إلى الميدان قبلهم في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، واستمرت فيه لمدة عام ونصف العام، قبل أن تأتي المصادفة التاريخية التي رفعت الإخوان إلى سدة السلطة في مصر. ولقد تبين أن تنظيم الإخوان كان يملك خطته للهيمنة على الحكم، بمفاصله كافة، مع تجاهل من سبقه إلى الميدان، ومن صمد فيه حتى إسقاط حكم حسني مبارك، بل ومارس الخديعة مع «الشركاء» بل «الرواد» في المواجهة وفي تقديم الشهداء وفي كشف المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومناوراته بهدف البقاء في السلطة لأطول مدة ممكنة. ومن أسف ايضاً أن هذا التنظيم الشعبي العريق قد أعماه الغرض فاندفع متعجلاً، ونسي أن تاريخه ضده، وأن الثورة الشعبية نادرة المثال التي انخرط فيها الشعب المصري بكل قواه السياسية الشبابية، قد اسقطت منذ اللحظة الأولى الشعارات الطائفية وتجارها، رافضا حكم العسكر مؤكدة حق القوى السياسية والنقابية والشبابية في المشاركة في القرار وهم صنّاع الثورة وحماتها... لقد تجاهل «الإخوان» أن هذه الثورة لا يمكن أن يحتكرها طرف واحد، كائنا ما كان تاريخه، وكائنة ما كانت خبراته في اللعبة الانتخابية، وفي شراء الضمائر والأصوات. بديهي أن الوقت قد فات على استعراض الفرص التي أضاعها «الإخوان» وأهدروها بغير مبرر للطلب من القوى ذات الدور الأبرز في الميدان أن تشارك في الحكم فتحميهم من أنفسهم. لقد تجاهل «الإخوان» أن الثورة كانت أعظم من أن ينجزها تنظيمهم العريق والذي يحيط به كثير من الغموض ويتناوله الكثير من اللغط حول قياداته السرية، وعلاقته بالتنظيم العالمي ل«الإخوان» المعروف المجهول، بمصادر تمويله غير المعروفة، وشبكة علاقاته الدولية، لا سيما مع تركيا وباكستان... ومن خلفهما. كذلك تجاهلوا حقيقة بسيطة وهي أنهم لا يمثلون مصر بالتسعين مليونا من أبنائها، وأن واقع أنهم التنظيم الشعبي الأعرض، بأعضائه ومناصريه، لا يعني أن هذا التنظيم يختصر مصر بقواها الحية، أحزاباً وتنظيمات وهيئات مع الأخذ بالاعتبار الدور الريادي العظيم الذي لعبه شباب مصر، من خارج التنظيمات جميعا، والذي كان العنصر الحاسم في التغيير الثوري الذي أنجزه الميدان... ولقد تجاهل «الإخوان» واقعة محددة: أن الرجل الذي أوصلته المصادفات إلى الرئاسة قد انتخبه بالاضطرار وليس بالانضباط الحزبي أكثر من نصف الذين اقترعوا له مرغمين، منعاً لوصول المرفوض منهم جميعاً إلى سدة الحكم. وكان على «الإخوان» وقد فازوا بما يتجاوز أحلامهم أن يردّوا الفضل لأصحاب الفضل، وأن يتواضعوا فيشكروا الشعب الذي شرّفهم بالرئاسة الأولى ويدعوا قواه الحية للمشاركة في حكم المرحلة الصعبة، بل القاسية، التي كان ضرورياً أن تتحمل المسؤولية عن مسارها جميع الفئات التي شاركت في الثورة، وكل أصحاب الكفاءات والخبرات، وهي بعض مصادر غنى مصر. لكن «الإخوان» الذين ربحوا بأكثر مما يستحقون قد ضيعوا وفي فترة زمنية قياسية بقصرها الفرصة التاريخية التي أتيحت لهم لكي يشاركوا في حكم مصر بجبهة وطنية عريضة تمثل كل القوى الجديدة فيها، بحيث تختصر الزمن المطلوب لعودة مصر إلى موقعها الطبيعي في قيادة أمتها العربية وفي دورها الريادي الذي تستحقه بجدارة في محيطها. ومن أسف فإن «الإخوان» الذين لم يعرفوا كيف يربحون فيستعيدون اعتبار الشعب المصري، وعبره الأمة العربية جميعاً، يتصرفون الآن وكأنهم لا يعرفون كذلك كيف يحددون خسارتهم الفادحة لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من جدارتهم بموقع الحزب الأوسع جماهيرية وإن كانت التجربة المرة قد أثبتت أنه الأعظم استهانة بإرادة الشعب. لقد أساء هذا التنظيم قراءة ضمير الشعب المصري، وما زال يتصرف بعقلية مرحلة العمل السري، وبمنهج «تمسكن حتى تتمكن» فإذا ما تمكنت فاندفع إلى إلغاء الجميع لكي تحكم منفرداً ولو أدى التفرد إلى تدمير مصر. وليس حكم مصر لعبة قمار: تربح بضربة واحدة كل شيء او تخسر كل شيء. وما زالت الفرصة متاحة أمام «الإخوان» لتحديد خسارتهم بعدما ضاعوا وهم يكادون يضيعون كل ما كان بين أيديهم. وهي فرصة لاستنقاذ مصر من حكم التنظيم الذي يصرّ على أن يبقى في العتم، حتى وقد رفعته المقادير إلى المنصب المتوهّج ضياء. "السفير"